الأسلوب الحكيم
من علم المعاني وهو احد علوم البلاغة الثلاثة ( المعاني ــ البيان ــ البديع )
(( هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على غير مراده .. وتلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره ))
الموضع الأول
( تلقي المخاطب غير ما يترقب )
توعــَّـــد الحجاج يوما القبعثري وهو من الخوارج فقال له : ( لأحملنــَّـك على الأدهم )
ويقصد الحجاج بالأدهم هنا القيد , إذ يهدده بالقيد والحبس ,
فقال الخارجي : ( مثلك يحملُ على الأدهم والأشهب )
ويقصد الخارجي بالأدهم هنا الجواد الأسود ويقصد بالأشهب الجواد الذي اختلط سواده بلون آخر ,
ويقصد بهما الهدية أو أن يحمله في سبيل الله .
فقال الحجاج : ويلك إنه حديد
فقال الرجل ( لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا ) قاصدا بلفظة ( حديدا ) هنا معنى ( ماهرا وصلبا )
وهنا حمل الرجل في تغابٍ ذكي كلام الحجاج على غير مراده ليستدر عطفه وكأنه يقول له :
إن من كان في قوة سلطانك خليق بأن يعد لا أن يتوعد , وأن يعطيَ لا أن يقيدَ ,
وقد أثر هذا الأسلوب الحكيم في نفسية الحجاج فامتص الرجل غضبه وعفا الحجاج عنه .
وهكذا يفعل مثل هذا اللون من البلاغة فعل السحر في النفوس فيلعب بالمشاعر والقلوب .
ومثال آخر لنفس الموضع :
يقول البغدادي :
قلت : ثقَّلْـتُ إذ أتيـتُ مـراراقال ثقَّلْـتَ كاهلـي بالأيـادي
قلتُ : طوًّلْتُ , قال : بل تطوِّلْتَوأبرمْتُ , قـال : حبـل ودادي
لقظ ( ثقــَّــلــْــتُ ) للبغدادي يعني حمــَّــلتك المئونة , فحملها صديقه على معنى : تثقيل عاتقه بالمنن والنعم ,
وكذلك طولت بمعنى أطلت الإقامة عندك فحملها صديقه بمعنى مننتَ , وكذا أبرمت التي حملها صاحبه بمعنى أبرمت حبل ودادي .
الموضع الثاني
( تلقي السائل بغير ما يتطلب ) تنبيها على أن هذا هو الأولى بأن يــُــطلبَ .
قال تعالى :
(( يسألونك عن الأهلة قل : هي مواقيتُ للناس والحج ))
صدق الله العظيم
قال الواحدي : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة عليهما رضوان الله , إذ سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يارسول الله مابال الهلال يبدو فيطلع دقيقا مثل الخيط , ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير , ثم لا يزال ينقص ويدِقُّ حتى يكون كما كان ؟ , لا يكون على حال واحدة )
وهنا السؤال جغرافي بحت , ولكن الله عز وجل أراد أن ينبههم أن سؤالهم يجب أن يكون على الحكمة من وراء ذلك .. لذا كانت الإجابة عليهم من المولى عز وجل بالحكمة .
كذا :
(( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل : ما أنفقتم من خير فللوالدين ))
صدق الله العظيم
ولما كانت وجهة الانفاق لا تعني شيئا طالما لم يقع موقعه فكانت الإجابة تحمل هذا المعنى إذ هو الأهم .
كذا : قوله تعالى :
(( قال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم : أتعلمون أن صالحا مُرسلٌ من ربه ؟ قالوا : أنا بما أرسل به مؤمنون ))
صدق الله العظيم
إذ جعل الذين آمنوا قضية إرسال صالح عليه السلام أمرا غير قابل للنقاش , بل يجب أن تسألوا يا أيها الكفرة هل آمنا به أم لا .