لا شىء يقهر إرادة الإنسان فى الحياة، تسأل الغزاويين عن كيفية حفر هذه الأنابيب الممتدة عبر الحدود، فيجيبك العرق الممزوج بالطين لعمال الأنفاق، العرق يحكى ألف قصة لمعاناة البشر، هنا فى مدينة رفح الفلسطينية كل مظاهر الحياة مغطاة بالتراب، الوجوه الشاحبة للعمال، الأجساد النحيلة لشباب انحنى ظهره فى بطن النفق المظلم، حتى أكواب الشاى الذى يتقوت منه سكان النفق كساها التراب، ومن تحت الكمامات التى يخفى العمال وجوههم بها تلمح الخوف يلمع فى العيون،
فالقدر المجهول تحت الأرض يجعل كل عامل خائفا يترقب، فمن لم يمت بالقصف مات بالصعق أو بسقوط النفق.. تعددت الأسباب والموت واحد. وبالرغم من كل ذلك، تظل الأنفاق -كما يقول أصحابها- شريان الحياة الذى يمد أهل غزة باحتياجاتهم المعيشية ولا يمكن قطعه بألف جدار فولاذى.
الزائر لمنطقة الأنفاق يمكنه أن يسجل المئات من براءات الاختراع، هذه الممرات الأرضية كما يقول أحد ملاكها «أبومحمد» معابر مفتوحة طالما المعابر الطبيعية مغلقة، وهى تلبى احتياج مليون ونصف مواطن حصروا فى علبة سردين كما يقول الرجل، ومن خبرته التى تمتد لأربع سنوات، يرى أن النفق جزء لا يتجزأ من حياة البشر فى غزة، لذلك يفعل الجميع ما بوسعهم لبقائها تجرى بالبضائع لكسر الحصار وسد جوع أطفال المخيمات، لكنه لا ينكر أن فى الأنفاق منافع أخرى، امتنع عن ذكر بعضها حرصا على بقاء تجارته الجديدة.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة عصرا حين زرنا منطقة الأنفاق، حان موعد تبديل الورديات، دخلنا إلى الخيمة البلاستيكية التى تغطى نفق أبو محمد الذى يصر على عدم تصوير وجهه أو الكشف عن هويته، لأنه لا يريد مشكلات مع الجانب المصرى، ويقول «لولا المصريون لمات أهل غزة»، يوقن الرجل أن السلطات المصرية تدرك حجم معاناة أهل غزة، لكن الضغط الدولى يجعلها تضع موازنات تضمن الحياة لأهل القطاع دون إحراج مصر دوليا.
تركنا السياسة جانبا، وبدأنا نرقب العمال الذين يتحركون كخلية النحل، يخرج من بطن النفق عامل وينزل آخر، لفت نظرنا أن بعض العمال من كبار السن، اقتربنا من الحاج بدر الذى تخطى الخمسين، كان يستقبل الأسمنت الخارج من النفق، وترابه جعل صدره متحجرا لا يفكه إلا دخان السجائر الذى ينفثه بين صعود الشكائر ونزول الحبل إلى النفق، سألناه: لماذا يتعب عمره فى هذه المهنة فقال «إيش بدى أسوى، كنت أعمل فى المعمار فى إسرائيل حتى أغلقوا المعابر، وخلفى عائلة تريد لقمة العيش»، بدر قال إنه لا ينزل النفق لأن هذه الوظيفة الخطرة من اختصاص الشباب، اصطحبنا رائد إلى إحدى العيون المبطنة بالخشب، وبدأ يشرح كيف يعمل «هذا النفق عمقه ٢٥ متراً، ومزود بالإضاءة كل ١٠ أمتار،
أما طوله فيصل إلى ٦٠٠ متر حتى العين فى الجانب المصرى»، يبدى رائد سعادة كبرى لأن النفق لم يخبطه الجدار الفولاذى بعد، لكنه يؤكد أن زملاءه استطاعوا خرقه، ولم يعطلهم غير يومين فقط، وفى بعض الحالات تم الحفر أسفل الجدار بعمق يصل إلى ٣٥ مترا، كان الرجل يتحدث بعد يوم من انسحاب الخبراء الأمريكان من رفح بعد فشل الجدار الفولاذى، وفسر ذلك بأنه «على الأمريكان أن يفهموا أن الحصار الظالم لقطاع غزة لا يمكن إحكامه فوق الأرض وتحت الأرض»، على حد قول رائد.
نزل رائد إلى النفق، ومن خلفه نزلنا، كنا نتشبث بالحبل الممشوط والمربوط بقطعة بلاستيك مثل «المرجيحة» وننزل تباعا، ومع كل متر تخفق القلوب، لا خبرة لنا بهذه الحفر العجيبة، وعند القاع ارتطمنا بقوة حتى ساعدنا رائد فى النهوض، رائحة النفق تشبه رائحة القبر، يقول رائد، كثير من زملائنا مات مخنوقا بالتراب المنهار من النفق أو خلال القصف الإسرائيلى للنفق، وأحيانا صعقا بالكهرباء، عندما تحدثنا لاحقا إلى خبراء فى المركز الفلسطينى لحقوق الإنسان قالوا لنا إن أكثر من ١٥٦ فلسطينيا قضوا تحت الأنفاق، والرقم مرشح للزيادة، وبسؤال العمال عرفنا أن كل نفق يعمل فيه وردية من ٢٤ عاملاً فى اليوم، بخلاف ٢٥ عاملا لتنزيل البضائع من الجانب المصرى.
ومع هذا العدد الضخم من العمال، لم يكن رائد يبالغ فى خطورة الأنفاق، فأسلاك الكهرباء التى تغذى المواتير الضخمة واللازمة للإنارة تمتد خلال النفق الطويل، والتربة تتنوع خلال السير. تحرك الرجل أمامنا، حتى وصلنا إلى منطقة مسقوفة بالخشب والحديد، قال رائد أنها تعرضت للانهيار ولذلك يقويها بالخشب، ويقول إنه لم يتعلم ذلك من مهندسين، أو خبراء، «لكن خبرتنا صارت كبيرة، والحاجة أم الاختراع».
اللافت لنظرنا أن النفق مجهز بالكامل، «شطالات» من المطاط كبيرة لحمل البضائع المهربة، وأجهزة اتصالات «إنتر كم» للتواصل بين العمال، وخراطيم أكسجين تضخ الهواء حتى لا يختنق العمال . دخلنا بضعة أمتار ثم عدنا أدراجنا مرة أخرى، وفى ذهننا عشرات الأسئلة عن كيفية إدارة منظومة الأنفاق.
فى الخارج جلسنا إلى أحد أبناء عائلة الشاعر، التى تعتبر «ملكة» صناعة الأنفاق وخبراء حفرها دون منازع . يقول أحد أبنائها الذى رفض الكشف عن اسمه إلا بـ«نضال»، «نستخدم أحدث طرق التكنولوجيا فى تحديد طول النفق، والذى يبلغ فى المتوسط من ٦٠٠ إلى ٨٠٠ متر»، والنفق يستغرق ٦ شهور من الحفر.
عرفنا أن «جوجل إيرث» يساعد فى فهم الخرائط وتحديد المسارات، وللنفق الواحد عدة عيون فى الجانب المصرى، لا يسمح بمعرفتها إلا لعدد محدود، وهناك لجنة عليا للأنفاق تديرها بلدية رفح التابعة لحكومة حماس المقالة، قال نضال إن البلدية تأخذ ١٠ آلاف شيكل سنويا من كل نفق إيجاراً للأرض «لكن هناك من يزوغ»، وفى وقت لاحق تحدثنا إلى زياد الظاظا وزير الأشغال والحكم المحلى فى حكومة «حماس» المقالة نفى أن تكون الحركة مستفيدة ماديا من إدارة الأنفاق، وقال إن البلديات تتمتع باستقلالية مالية تامة.
عدنا إلى نضال ليحدثنا عن تكلفة حفر النفق فقال «من ٣٠٠ ألف إلى نصف مليون دولار، أما البضائع فكل شىء يدخل الآن إلى قطاع غزة، وبفضل الأنفاق تحتفظ اللحوم بسعر «٤٠ شيكل» حوالى ٥٠ جنيها مصريا، أما البنزين والسولار فأصبح متوفراً بسعر قريب من السوق المصرية، اللتر من البنزين يباع فى القطاع بشيكل ونصف أى حوالى ٢ جنيه مصرى»، أما الطلب الحالى– طبقا لنضال- فيتركز على مواد الإعمار خاصة الحديد والسيراميك والأسمنت.
يقول الرجل الذى يعتبر من أهم تجار الأنفاق: مكسب طن الأسمنت ٤ دولار لصاحب النفق -٢٠ جنيها تقريبا- والسبب هو أن عدد الأنفاق قد زاد وأصبح حوالى ١٢٠٠ نفق، ولا يستطيع أصحابها التنسيق بينهم للحفاظ على السعر، أما متوسط طاقة النفق فهى ٧٠ طناً فى اليوم من الأسمنت يتم تمريرها من النفق.
اقتربنا من ماجد شهوان، أحد العمال الذين يرفعون الأسمنت، وعن أجرته قال «بعض أصحاب النفق يدفع ٦٠ شيكلاً للعمال على كل طن أسمنت يتم رفعه، ويتقاسم المبلغ ٥ عمال، أما متوسط أجر العامل الواحد فهو ١٠٠ شيكل فى اليوم– ١٢٥ جنيها تقريبا»، وفى السابق كانت الأجرة أكبر لكن السوق نايم فى هذه الأيام كما يقول الرجل.
أما عن أكثر البضائع ربحية حاليا فيقول الرجل «السيارات»، وحاليا ترى موديلات الإلنترا والكورولا الحديثة، ويحصل صاحب النفق على ١٢ ألف دولار عن كل سيارة يتم تهريبها من مصر، لكن تصوير هذه الأنفاق ممنوع تماما.
يشرح أبومحمد صاحب النفق الذى يعمل فيه ماجد كيف تسير الأمور، ويقول «الأوضاع السياسية أثرت على الأنفاق، الحديث عن فتح المعابر مع إسرائيل ساعد على ركود العمل فيها»، ويضيف «التجار أصبحوا ينتظرون فتح معابر إسرائيل، لأن البضاعة جيدة ولا تتعرض للتلف والكسر خلال نقلها فى الأنفاق»، ويؤكد أن الأنفاق لا تعمل على مدار الساعة، وجرى البضاعة فى بطنها يتوقف على الحالة الأمنية فى الجانب المصرى، يقول رائد «متى كانت الحدود آمنة، يبدأ العمال فى إنزال البضائع من المخازن إلى العين (فتحة النفق) بعد أن يتم توضيبها فى أكياس بلاستيك حماية لها من التراب والطين والرطوبة التى يمتلئ بها النفق، ثم يتم وضعها على شطالات تجرها أسلاك معدنية بواسطة مواتير كهربائية إلى الجانب الفلسطينى».
حاولنا أن نعرف من أبومحمد هل كل البضائع مسموحة، فأجاب «حكومة حماس لا تسبب مشكلات، الأمن هنا لا يمانع طالما أنك لا تلعب فى الممنوع»، سألناه: ماذا تقصد، فأجاب، المخدرات طبعا، أما السجائر فيتم جمركتها وتشرف عليها اللجنة العليا لإدارة الأنفاق التابعة لبلدية رفح، وتمر دوريات تتبعها وتحصل جمارك تضاف للمستشفيات فى قطاع غزة على حد قوله.
يؤكد أبومحمد أن «حماس» وحكومتها لا تملك أنفاقا، «كل الموجود شركات بين المواطنين»، والمثير أنه خلال جولتنا كنا نشاهد قوات الأمن الوطنى التابعة لحماس تتجول بورديات فى المنطقة، واستوقفونا برفق وحرصوا على مشاهدة الصور التى بحوزتنا حتى يطمئنوا إلى أننا لم نصور «ممنوعات»، والمثير أن كل أصحاب أنفاق الحيوانات رفضوا التصوير أو دخول النفق المزود بـ«أسانسير»، وفسر لنا أبو محمد ذلك بأنه من أهم أسرار الأنفاق، وليس هذا هو السر الوحيد،
فمواعيد العمل هى سر أيضا، وتتبع الحالة الأمنية فى مصر، وغالبا ما يتم التهريب فى المساء كما يقول أبومحمد، لكنه تحفظ على ذكر المزيد وخاصة عن أنفاق السلاح الذى أكد أنه لا علاقة له به، ورفض الجميع مساعدتنا فى الحصول على أية معلومة عنه، «لأنه سر الأسرار»، أما مسؤولو حماس ففضلوا عدم التحدث معنا فى الموضوع لعدم إحراج الجميع.
غادرنا الأنفاق ودخلنا للقطاع فوجدنا البضائع المصرية تغرق أسواق غزة، وهذا موضوع له حديث آخر.