هى قصة عادية، لمدينة عادية، إخبارية صحفية تقول إن هناك تجاوزات تُمارس - دون وعى - ضد الشعاب المرجانية الموجودة فى مدينة دهب، إحدى مدن جنوب سيناء، جعلتنا نقصد المدينة لنتقصى الأخبار، حيث تعتبر هذه الشعاب مصدراً رئيسياً للجذب السياحى، خاصة لهواة الغوص والاستمتاع بجمال الطبيعة، ولون الماء التركوازى الذى يغريك، بغض النظر عن قدراتك على السباحة، على النزول فيه وكأنه ماء مسحور، حتى القمر نفسه بات يغافل الجميع ليلاً ويتدلى حتى يلامس ظله سطح الماء، فيرسم أشكالاً جنونية طفولية، وكأن البحر مرآته الخاصة، ورغم كل هذا، ظلت هذه الرحلة بالنسبة لنا، قصة صحفية عادية لمدينة ساحلية عادية.
٨ ساعات هى مدة الطريق من القاهرة إلى دهب، يتخللها وقوف واحد فى إحدى الاستراحات، ليقضى من شاء حاجته فى دورات مياه تنقصها لافتة تقول «الكل مروا من هنا»، فيما يتربح الباعة فى هذه الاستراحة المسماة «ريست هاوس» من رواد الحافلات السياحية ببيع المأكولات والعصائر بأسعار مضاعفة، وبالوصول إلى المنتهى، تأتى سيارة صديق «جيب مكشوفة» لتقلنا إلى قلب المدينة، حيث فندق حديث أقيم على الطراز الإنجليزى، يطوف بنا من موقف الأتوبيس حتى منطقة «العسلة» التى يسميها البدو «العصلة»، لحظات وتغوص السيارة فى بركة من الماء، سرعان ما يتصاعد منها رذاذ قمىء يقضى على التكهنات حول ماهية هذه المياه، فالمدينة الساحلية التى تبعد عن شرم الشيخ ١٠٠ كيلومتر جنوباً - والمسافة نفسها عن مدينة إيلات الإسرائيلية فى الشمال الشرقى - غارقة فى مياه الصرف الصحى، بعد أن باتت شبكة الصرف لا تتحمل ضغط القرى والفنادق المتزايدة بشكل مضطرد.
المعلومات المتاحة عن «دهب» تقول إنها مدينة عانت من الإهمال حتى التفتت إليها الدولة مع بداية التسعينيات من القرن الماضى، وقدمت تسهيلات لتنميتها سياحياً وجذب الاستثمار إليها، وأقامت فيها القرى السياحية والفنادق، ولكونها الأرخص سعراً فى سواحل سيناء، فقد جذبت عدداً كبيراً من الأجانب، فاحتلت المرتبة الثانية بعد «شرم الشيخ»، إلا أن أروع ما كُتب عن تلك المدينة كان على لسان زوارها الأجانب على مدوناتهم الخاصة، أو فى مجلدات أطلس السياحية، وأغلب هذه الكتابات اهتمت بوصف الموقع بشكل يبرز المعالم السياحية والتجارب الإنسانية فى أسطر ضنينة،
إلا أن اللقاءات التى أجريناها مع عدد من الغواصين والسباحين الذين جاءوا من أقصى الشمال والغرب وشرق آسيا، والتى أبدوا فيها حرصهم على تكرار زيارتهم لهذا المكان، جاءت لترسخ فكرة أن المصريين لا يعرفون بالفعل الكثير عن بلدهم وأن هذه المدينة بالتحديد تستحق أن يكتب عنها ما يليق بها وبرونقها الفريد، فهذا شارل الأمريكى الخمسينى القادم من ولاية تكساس فى أقصى الجنوب، راح يعد لنا أشهر أماكن الغوص فى البحر الأحمر، أهمها فى الناحية المصرية، يحفظها عن ظهر قلب، موقعها وعمقها وتاريخ تكوينها ومدى ندرتها، يسأل متحدياً «الجميع يعرف أن مصر بها ثلثا آثار العالم، زرت أغلبها، فهل تعرف كم تملكون من الشعاب المرجانية؟»،
لم يرد الإجابة، فقط قال «تعلم الغوص أو السباحة وسوف تعرف بنفسك، تفخرون بالأهرامات التى يصل عمر بنائها إلى ٥ آلاف عام، وتتركون شعاباً مرجانية وكنوز البحر التى يتجاوز عمرها ٥ ملايين عام؟!.. أنتم لا تعرفون شيئاً عن بلدكم وكنوزها، لكم أنتم محظوظون أيها المصريون!».
لحظات وكنا قد حسمنا الأمر، سنخوض هذه التجربة لننقل المشهد من الأعماق كما يراه الآخرون، كانت أمامنا عقبتان، الأولى هى عدم القدرة على الغوص، فالأعماق هنا تقاس بمئات الأمتار، علاوة على برودة الماء وارتفاع الموج الذى يتجاوز فى بعض الأحيان ثلاثة أمتار، ودورة التدريب تستغرق على الأقل أسبوعا، أما العقبة الثانية فكانت فى التصوير تحت الماء، وبتدبيرات بسيطة تم حل هاتين العقبتين.
الوقت المثالى لتجربة السباحة تحت الماء حتى الشعاب المرجانية أو الغوص تحتها يبدأ من التاسعة صباحا وحتى الثالثة ظهرا، بعدها تصبح الرؤية تحت الماء أمراً صعباً، كما أن الماء يزداد برودة بشكل كبير، البداية كانت من منطقة الفنار أو «اللايت هاوس» وهو الاسم الأكثر انتشارا هنا، تسير على الشاطئ لمسافة خمسين مترا، بعدها يبدأ انحدار شديد،
لذا فليس أمامك سوى الاستلقاء على بطنك واستخدام أنبوب التنفس حتى تنتهى الجولة، نظارة الماء تساعدك على الرؤية بوضوح تام، جزيئات الهواء التى يحملها ذراعاك إلى الماء أثناء السباحة تتسبب فى فقاعات تعوق الرؤية شيئا ما، تحرمك من هذا المنظر الخلاب لجزء من الثانية، لذا ترى كل من حولك يحركون أيديهم من تحت الماء، لن تتخيل أبدا أن هناك ماء بهذا الصفاء،
أما زعانف القدم فسوف تقودك حيث تشاء، فقط لقنها الأمر بانسيابية ودون ارتباك، فجأة تشعر بأن الأرض من تحتك بدأت تتلاشى، وتبدأ أسراب الأسماك الملونة الصغيرة تحيط بك، لا تبدى انزعاجا أبدا من وجودك بينها، تستطيع أن تداعبها وأن تبادلك المداعبة نفسها دون أن تخرج عن السرب، من بعيد يلوح غواص محذرا إياك من لمس سمكة بعينها تبدو مسالمة، الحياة تحت الماء عالم له قواعد وخطوط حمراء، يجب التعامل معها بحرص.
الشعاب المرجانية فى هذه المنطقة تبدو غاية فى الروعة، أنت الآن تنظر إلى كائنات حية تمثل جبلا هائلا تحت الماء تكون أغلبه قبل أن يخلق الإنسان، «جيسكا روبرت» الناشطة البيئية السويسرية التى أولت جل اهتمامها بالتوعية بأهمية الحفاظ على هذه الكائنات البحرية فى دهب تؤكد أنها تنمو بمقدار ١ سنتيمتر فقط كل ١٠ سنوات، يمكنك الآن الاقتراب من هذه الشعاب ومشاهدتها عن قرب، تستطيع أن تشاهد السطح المستوى المسمى «المنضدة»، والذى يصل قطره إلى ١٠٠ متر، أو أن تحبس أنفاسك بحذر وتغوص أمتارا قليلة، وتستمتع بمشاهدة أجزاء أخرى منها،
«لكن تذكر أن الغوص دون التجهيزات اللازمة فى هذه المنطقة يعنى دون أى مبالغات الوفاة الفورية، فبجانب الأعماق السحيقة التى يتحول فيها اللون التركوازى إلى الأسود القاحل تدريجيا، فإن ضغط الماء على الأذن والرأس والعين يسبب نزيفا داخليا أو فقدانا فوريا للوعى، علاوة على أن الخروج السريع إلى السطح يسبب انفجار الرئة»، هكذا يقول روبرت فاندر، مدير أحد مراكز الغوص، محذرا من نشوة المغامرة، طمعا فى رؤية المزيد لأن لـ«دهب» - وبحسب قوله - «سحراً خاصاً، يجعلك تنسى كل شىء حتى الخطر ذاته من أجل الاستمتاع بهذا السحر مهما كلفك الأمر!».
تحت الماء، وفى منطقة «اللايت هاوس»، تجد غواصا يعزف منفردا خارج مجموعته، يحمل بطارية بيمينه ويتخلل الكهوف داخل الشعاب المرجانية، لتجده بعد قليل يخرج وفى يده اليسرى مجموعة من الأكياس البلاستيكية وزجاجات المياه الفارغة، يجمعها فى حقيبة مربوطة فى خاصرته، ثم يمد يده بحرص ويلتقط قطعة من الحجر وأخرى من الأسمنت، يسقط الأولى فى الأعماق فيما يحيط الثانية بأحد الأكياس البلاستيكية ويحملها معه، أشير إليه بإيماءة استفهام،
فهى اللغة المتعارف عليها هنا، فيشير بإبهامه إلى الأعلى حيث يخلع كل منا أنبوب التنفس ويبدأ هو فى شرح خطورة البلاستيك والأسمنت على هذه الكائنات البحرية باقتضاب «الشعاب المرجانية حيوانات، ليست نباتات أو صخوراً كما يعتقد البعض، والأكياس والزجاجات البلاستيكية تتسبب فى خنقها وسد المسام التى تتغذى من خلالها، لذا تعتبر هى العدو الأول لهذه الكائنات،
أما بقايا الأسمنت فهى سموم قاتلة تقضى عليها فى وقت قياسى، لذا تجد معارك دامية على الشاطئ بين حماة البيئة وأصحاب المقاهى الذين يتجاوزون الحدود المصرح بها ويبنون ملحقات داخل البحر، فلا أنت تستطيع إزالة هذه التعديات لأن بقايا عملية التكسير ستحملها الأمواج إلى الشعاب، ولا أنت يمكنك تركها لأنها تتفتت ببطء بفعل تصادم المياه بها، لذا لم يكن أمامنا سوى حماية الشعاب من الداخل».
لم يكن هذا الشاب سوى عاشق للحياة البحرية، وجد فى دهب مبتغاه، فاستوطنها وعمل مدربا للغوص، لأنه يراها أفضل مكان للغوص فى العالم، يتنقل بمجموعاته بين هذا المغطس وبين «الكانيون» وهى كلمة إنجليزية تعنى الوادى الضيق، أما أجمل المواقع فهى فى منطقتى «بلو هول» الثقب الأزرق و«أيلاند» الجزيرة، يلاحظ هنا أن تسمية الأماكن فى البحر كلها إنجليزية، لأن الإنجليز هم أول من اكتشفوها،
فى حين سميت المدينة البرية بأسماء بدوية مثل المسبط والمشربة والزرنوق، ينصح هذا الشاب بزيارة الجزيرة، مؤكدا أنها ليست بالسهولة التى نراها هنا فى منطقة «اللايت هاوس» فالأعماق هنا أكبر، والابتعاد عن نطاق الشعاب المرجانية يعنى إمكانية الدخول فى حظائر أسماك القرش، وكانت هى محطتنا الثانية.
على الشاطئ توجد خيمة خشبية كبيرة، يلبس تحتها رواد المكان ملابس الغوص وأدوات السباحة تحت الماء، الكل هنا يرتدى هذه البذلة الجلدية السوداء، برودة الماء التى تقترب حرارتها من ٨ درجات مئوية تحتم ذلك، فى هذه المنطقة لابد أن يكون معنا دليل، هذه المرة كان شاباً مصرياً اسمه سعيد، يعمل فى أحد الفنادق ويجيد السباحة والغوص، على الشاطئ جلست مجموعة من الشبان جاءوا من اليابان، بعضهم جاء للمرة الثانية، أما زوار المنطقة للمرة الأولى فقد حرصوا على أن يحصلوا على إجابة لسؤال واحد: «هل ستبقى الأسعار هنا على هذا النحو؟!.. نرجوكم اكتبوا أن تبقى كما هى، فنحن نريد أن نأتى، العام القادم، وهذه الأسعار تناسبنا بشدة».
ما إن بدأنا النزول حتى تبين مدى وعورة السير على هذا الشاطئ الملىء بالصخور والأحجار، ينصح البعض هنا بالسباحة حتى منطقة العمق، تراها مسافة طويلة تتجاوز ٥٠٠ متر، لكن ما إن تسقط إحدى قدميك فى حفرة تكتشف بعدها أنك تسير على سطح من الشعاب المرجانية أجوف يكسو عمقا لا يقل عن ٥٠ مترا، فسوف تبادر فورا بالسباحة، محاولا تفادى قنفذ البحر بألوانه المتباينة ما بين الأسود والأزرق والأحمر والأصفر، لكن المشهد هنا يصيب الكثيرين بنوبة عصبية شديدة،
لذا يحرص المرافقون من المدربين على الاقتراب ممن يقومون بالسباحة للمرة الأولى لتجاوز هذه المنطقة، العمق الشاسع الذى تواجهه للمرة الأولى قد يصيبك بحالة لا إرادية تجعلك تغوص لأمتار قليلة، السباحة ليست هى العنصر الأهم الآن، إنها مرحلة التحكم فى الأعصاب، كثيرون يصلون إلى هذه المرحلة ثم يقررون العودة، من يتجاوزها فهو قادر على الاستمتاع بهذه المنطقة.
تدور حولها بشكل متعرج، تبدو فعلا مثل الجزيرة، إلا أن سطحها لا يتجاوز سطح البحر، وعلى بعد ٣٠٠ متر منها توجد جزيرة أخرى مشابهة أكبر حجما، وبينهما كهوف من الشعاب المرجانية والأسماك الكبيرة، أحدها يشبه الطاووس، يسمى «دجاجة البحر»، وآخر ذو بشرة داكنة ورأس غير بارز وأعين غاية فى الدقة، يسمى «جنية البحر» شكله مخيف فعلا، وفى الجهة المقابلة للشاطئ تجد مشهداً يبعث على الأسف، تلالاً من مستوطنات الشعاب المرجانية الهالكة، ماتت بفعل التلوث الذى يحمله الماء من رواد الشاطئ، علاوة على الآخرين الذين يحرصون على اقتطاع أجزاء منها إما لبيعها أو الإبقاء عليها كتذكار لهذه الرحلة.
بعد هذه الرحلة نعود مرة أخرى إلى الناشطة السويسرية «جيسكا روبرت» لتؤكد أن هناك عدة فنادق راحت تقدم للسائحين حقيبة خاصة يستخدمونها طوال فترة بقائهم فى المدينة ويسلمونها للفندق بعد نهاية الجولة، أملا فى تقليل أعداد الأكياس البلاستيكية والزجاجات، أما أصحاب المقاهى الذين طال جشعهم شاطئ المدينة، فقد راحوا يقضون على هذه القيمة التى منحتهم إياها الطبيعة دون وعى منهم، منتقدة سلوك المجلس المحلى الذى لم تفلح محاولاته فى إيقاف هذه التجاوزات!.
«بداخل هذا البحر وعلى تلك الشواطئ كنا نرى الجنة نفسها، حصان البحر بألوانه وأحجامه كان قريباً جدا من الشاطئ، راح الآن يهرب إلى الأعماق، كانت الدلافين تقفز على بعد ١٠٠ متر من هنا، وكنت تشعر بأنك داخل (أكورايوم) أو حوض للأسماك النادرة من حولك، كل هذا الجمال انتقل إلى الأعماق لكنه يحتاج من يحميه ليعود إلى دهب كامل بريقها»،
يتحدث الشيخ محمد وكأنه خبير بحرى، جاء إلى هذا المكان لأول مرة عام ١٩٨٢ بعد تحرير سيناء، وقع فى حبها - كما يقول -، بعد تقاعده سافر إلى الخليج وعمل لفترة، عاد بعدها ليضع استثمار حياته فيها، يقول إن من يزرها لا يملها، هدوؤها جميل، وهواؤها جعلها من أهم أماكن ركوب الأمواج والمراكب الشراعية، نظراً لسرعة الرياح فيها حيث تطوقها الجبال من جهات كثيرة، فتحدث أماكن ضغط منخفض وآخر مرتفع مما يساعد على سرعة حركة الرياح، وأضاف مؤخرا رياضة جديدة هى القفز بالمظلات.
ولهذه المدينة قيمة تاريخية أيضا، فقد ورد ذكرها فى العهد القديم باعتبارها أحد الأماكن التى مر عليها اليهود فى فترة التيه بسيناء تحت اسم «دى ذاهاف» أى الذهب، كما شيد فيها الصليبيون من ناحية فلسطين قلعة لاتزال بقاياها واضحة حتى الآن تسمى قلعة كورال، ويسميها المصريون قلعة صلاح الدين.
يمكن مشاهدة فيديو الموضوع فى موقع «المصرى اليوم» على الرابط التالى:
http://www.almasryalyoum.com/multimedia/video/dahabs-nature-jeopardized