اختارني نصر الحاجب مؤدباً لوليّ عهد الخليفة المقتدر (وهو الراضي)، فرأيته ذكياً فطناً عاقلاً إلا أنه خالٍ من العلوم فحبّبت العلم إليه، واشتريت له من كتب الفقه والشعر واللغة والأخبار قطعةً حسنة. وقرأ علّي من كتب اللغة كتباً كثيرة منها "خلق الإنسان " للأصمعيّ. فمضى خَدَمٌ سمعوا ذلك إلى المقتدر وإلى والدته فقالوا لهما: إن الصولي يعلّمه أسماء الفرج والذّكر! فدعا المقتدر نصر الحاجب فعرّفه ذلك. ودعاني نصر - وكان من أحسن الناس عقلاً - فسألني عن ذلك، فعرّفته أن هذا من العلوم التي لا بد للفقهاء والقضاة منها، فقال: جئني بالكتاب. فجئته به. فأخذه وأدخله إلى المقتدر وعرّفه ما عرّفته. وإني لأذكر يوماً وهو يقرأ علّي شيئاً من شعر بشّار، وبين يديه كتب لغة وكتب أخبار، إذ جاء خدم من خدم جدّته السيدة، فأخذوا جميع ما بين يديه من الكتب، فجعلوه في منديل كبير كان معهم، وما كلّمونا بشيء، ومضوا. فرأيته قد وجم لذلك واغتاظ، فسكّنت منه وقلت له: ليس ينبغي أن يُنكر الأمير هذا، فإنه يقال لهم إن الأمير ينظر في كتب لا ينبغي أن ينظر في مثلها، فأحبوا أن يمتحنوا ذلك. وقد سرّني هذا ليروا كل جميل حسن. ومضت ساعات أو نحو ذلك، ثم ردّوا الكتب بحالها. فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم بهذا: قد رأيتم هذه الكتب، وإنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء، وليست من كتبكم التي تمترحونها مثل عجائب البحر وحديث سندباد والسنور والفأر! وخفت أن يؤدي الخادم قوله فيقال: من كان عنده؟ فيذكرني، فيلحقني من ذلك ما أكره. فقمت إلى الخدم فسألتهم ألا يعيدوا قوله، فقالوا: والله ما فهمناه، فكيف نعيده؟!
من كتاب "الأوراق" للصولي.