كان القاضي أحمد بن أبي دواد من رءوس المعتزلة، وكان معظـَّمـاً عند المأمون، يقبل شفاعتـَه ويـُصغي إلى كلامه. وهو الذي دسَّ للمأمون القول بخلـْق القرآن، وحسـّنه عنده، وصيـّره يعتقده حقـّا مبينـاً، إلى أن أجمع رأيه على الدعاء له، وامتحان العلماء فيه. ثم سار المعتصم فالواثق سيرة المأمون في هذه الفتنة. ويـُروى أن الخليفة الواثق أُتـِيَ إليه بشيخ مقيـّد يقول بقدم القرآن ليمتحنه. فلما أُدخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال الواثق: لا سلـَّم الله عليك. قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدّبك به مؤدبك. قال الله تعالي: (وإذا حـُيـِّيتم بتحيـَّة فحيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها). والله ما حيـَّيتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دواد: يا أمير المؤمنين، هذا رجل متكلم. قال الواثق: كـَلـِّمـْه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؟ قال الشيخ: أنا أسألك قبل: فقال له: سـَلْ. قال الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. قال الشيخ: هذا شيء عـَلـِمـَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، أم شيء لم يعلموه؟ قال ابن أبي دواد: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ، عـَلـِمـْتـَه أنت؟! فخجل ابن أبي دواد، وقال: أَقـِلـْني. قال: والمسألة بحالها؟ قال: نعم. قال: ما تقول في القرآن. قال: مخلوق. قال: هذا شيء عـَلـِمه النبي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموه؟ قال: علـِمـُوه. قال: هل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا؟ قال: بل سكتوا. قال الشيخ: فهلاّ وَسـِعـَكَ ما وَسـِعـَهم من السكوت؟! فقام الواثق ودخل مجلس الخـَلوة واستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ سبحان الله، هذا شيء علمه النبي والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! ثم دعا الحاجب، وأمره أن يرفع عن الشيخ قيوده، ويـُعطيـَه أربعمائة دينار. وسقط من عينه ابن أبي دواد، ولم يمتحن بعد ذلك أحداً.
من كتاب "تاريخ بغداد" للخطـيب البغدادي