في مثل هذا اليوم، الثاني عشر من مارس عام 1964، رحل الكاتب والأديب المصري الكبير، عباس محمود العقاد، ذلك الرجل الذي مثل نهرًا من الأنهار العربية التي جرت ولا تزال بين ضفتي الأدب والسياسة، فالعقاد هو أكثر من كتب في السياسة وتفاعل معها لصالح القضية الوطنية، وظل هذا النهر متدفقا لا يسقي مصر وحدها، حيث نشأ العقاد وعاش وكتب، وإنما يسقي الأرض العربية بأكملها، كتب في السياسة والفنون والأخلاق والديانات، وغيرها كثير من ألوان الكتابة، فضلا عن إجادته للشعر كأروع ما يكون الشعر الرومانسي، إذ يقول: فنهضنا للهو في دار ذي القر *** نين بين الصحاب والقرناءِ
ووصلنا مساءنا بصباح *** ووصلنا صباحنا بمساءِ
* نشأته ولد عباس محمود العقاد في 29 يونيو 1889، واشتهر باسم عباس العقاد، نسبة إلى جده الذي كان يعمل نساجًا في المحلة الكبرى، كان أبوه محمود العقاد من أسرة متواضعة في دمياط ونزح إلى أسوان، حيث كان يعمل في مديريتها أمينا للمحفوظات، وهناك تزوج من والدة العقاد وهي كردية الأصل، حفيدة لأحد رجال الفرقة الكردية التي وجهها محمد علي إلى السودان، وكان العقاد محبًّا ومقدرًا لأمه، ويقول أنه يشبهها في كثير من الصفات.
التحق العقاد بكتاب الشيخ نصير في أسوان 1896 وحفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنوات.
كانت الظروف مهيأة كي يكون عباس العقاد أديبًا؛ فكان يحرص والده على قراءة كتب الفرائض والعبادات وبعض كتب التاريخ والسيرة النبوية، وكان يرى بين يديه مجلة "الأستاذ" التي كان يصدرها عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية ومعها أعداد قليلة من العروة الوثقى ونشرات الثورة التي كانت توزع في الخفاء، وكان يسمع أخبارا في سير الكتاب الذين يصدرون هذه الصحف، فكان يوجد في أسوان أستاذ جليل يدعى "أحمد الجداوي" وكان والده يصحبه دائمًا في زيارته وهو أحد فضلاء الأزهريين الذين لازموا دروس الشيخ جمال الدين الأفغاني بالقاهرة.
* أديب الثورة بدأ العقاد الكتابة عام 1906 وعمره 17 عامًا، وعندما اندلعت الثورة في 1919 كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر وتاريخ العقاد على السواء، حيث ارتبط بها وساهم فيها منذ اللحظة الأولى، حتى يمكن أن يطلق عليه "كاتب الثورة"، ومن أعماله ذات الدلالة في هذه الفترة أنه كان يكتب منشورات جماعة "اليد السوداء"، إحدى الجماعات السرية الرئيسية أثناء الثورة، ومن مواقفه أيضا تصحيحه لبيان "لجنة ملنر" التي جاءت إلى مصر بعد اندلاع الثورة بشهور لمحاولة البحث عن مخرج من المأزق الذي وقعت فيه إنجلترا داخل مصر، وأصدرت هذه اللجنة بيانًا جاء في ترجمته العربية: "إن اللجنة ترغب رغبة صادقة في أن تمكن الأمة المصرية من صرف كل مجهوداتها إلى ترقية شئون البلاد تحت أنظمة دستورية" وسارع العقاد إلى تصحيح الترجمة، فالعبارة الصحيحة التي قصد الإنجليز إخفاءها كانت "تحت أنظمة حكم ذاتي" ولم تكن "تحت أنظمة دستورية".
لقد كان الفرق بين العبارتين كبيرا جدًا في نظر الوطنيين، الذين كانوا يريدون الاستقلال والدستور، ويريدون أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولم يكن المصريون يطلبون الحكم الذاتي، فالحكم الذاتي لم يكن ليختلف كثيرا عن نظام "الحماية" الذي كان قائمًا قبل الثورة وكان من أهم أسباب اندلاعها.
* الدستور أولا كان العقاد في هذه الفترة يركز في كتابته على فضح الإنجليز ومواقفهم في مصر، مناديا بدستور وداعيا إليه دعوة حارة، فالدستور كان بمثابة أعز أهداف الثورة، وأساس الاستقلال والحرية، حاول دائما أن يثير الرأي العام ضد الاحتلال الذي كان يغزي الفرقة والاختلاف بين أفراد الشعب وبين طوائفه، وحارب بكتاباته كل الأقلام التي وقفت ضد الثورة والمنبطحة أمام المحتل، وشن نيرانا من الهجوم الحاد ضد أعداء سعد وأعداء الوفد وأعداء الحركة الوطنية الذين شاركوا في الثورة منذ بدايتها ثم ما لبثوا أن انشقوا عنها طمعا في مآرب سياسية وأطماع شخصية، وانشقوا عن زعامة سعد وأنشأوا حزبا تحت اسم "الأحرار الدستوريين".
* المنشقون عن الثورة ركز العقاد في البداية حملته على حزب "الأحرار الدستوريين"، هذا الحزب الذي تألف أساسا لمحاربة الوفد، وليكون سندًا للسراي والإنجليز، والذي وصفه عبد الرحمن الرافعي بأنه تألف عام 22 "لا استنادًا إلى تأييد الشعب بل ارتكانًا على سلطة الحكم كما كان مع غيره من الأحزاب الرجعية وسيلة لاستعادة الحكم المطلق وحرمان الشعب من حقوقه السياسية الوليدة"، وانضم إلى هذا الحزب بعض الرأسماليين والإقطاعيين الذين وجدوا الخير والمصلحة لهم في التعاون مع الإنجليز والسراي أكثر مما يجدون الخير والمصلحة في التعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية التي فجرت الثورة، ومن ثم اعتدوا على الدستور والحريات، ومن هنا اتخذ العقاد موقفه الفكري الواضح ضد الأحرار الدستوريين فهم الذين انشقوا في أعوام الثورة الوطنية التالية ليمثلوا بوضوح "ثورة مضادة"، وليكونوا أداة في يد الإنجليز والسراي لعرقلة حركة النمو الوطني والديمقراطي في البلاد.
* ماذا تخسر مصر؟ وكتب العقاد في تلك الأيام مقالا عنيفا بعنوان "ماذا تخسر مصر لو فقدت الأحرار الدستوريين"، قال فيه: "سؤال غريب! وكأنك تسأل ماذا تخسر مصر لو فقدت الوصوليين المنافقين عشاق المناصب وعباد المآرب وأنصار كل غالب وغاصب، أو كأنك تسأل ماذا تخسر مصر لو فقدت الكذابين الدساسين الذين يميتهم الصدق والنور ويحييهم الكذب والظلام، أو كأنك تسأل ماذا تخسر مصر لو فقدت تجار السياسة الذين يبيعون الوطن في سوق المطامع ويسعون بين الأمة وغاصبيها سعي السوء ويبدون لها غير ما يضمرون ويريدون بها غير ما تريد، هؤلاء لولاهم ولولا تهافتهم على المناصب ووقوفهم بالمرصاد لكل فرصة سانحة واستعدادهم لكتابة العرائض التي يستجدون بها الوزارات ويستعطفون بها الإنجيز، لولا ذلك لعلم الغاصبون أن الأمة يد واحدة وكلمة واحدة لا مساومة فيها ولا مناورة، فإما أن يعطوها كل ما تريد وإما أن يناوئوا منها أمة كاملة مجمعة على الإباء والمقاومة والثبات على مطالبها حتى تنالها جميعا وتبلغ من الحرية ما تريد، ولكن الأحرار الدستوريين ظلوا مع الوفد المصري حتى سنحت لهم بارقة الأمل من ناحية مشروع ملنر (بحمايته الصريحة) فتكالبوا عليه ووثبوا إلى الفرصة يرتجفون وجلا من أن تفلت من أيديهم، وسارعوا بالانفضاض من حول الثورة والتفرق عنها، ورأوا أنهم قد جاوزوا الحد في الجهاد وكلفوا أنفسهم فوق ما تطيق من الصبر والثبات".
* مشواره تخرج عباس العقاد من المدرسة الابتدائية في أسوان 1903 وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولكن لم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا 1905 ثم نقل إلى الزقازيق 1907 وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية.
وعندما استقال من وظيفته بالزقازيق التحق بمدرسة الفنون والصنايع، ثم عمل موظفًا في مصلحة التلغراف لمدة ستة أشهر بعدها واستقال ليكون أول موظف يستقيل بمحض إرادته.
وبعد أن استقال عباس العقاد، فكر في إصدار صحيفة أسبوعية باسم "رجع الصدى" ولكن حالت الإمكانيات المادية دون تحقيق حلمه، فأخذ يعمل صحفيا يكتب للصحافة من منازله وهو في أسوان.
بدأ العقاد عمله في الصحافة في صحيفة الدستور اليومية 1907 مع المفكر "فريد وجدي"، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، ولم يمض عام على عمله في الصحافة حتى أصبح أول صحفي يجري حوارًا مع الزعيم سعد زغلول وكان ناظرًا للمعارف في ذلك الوقت.
في عام 1909 تعرض العقاد لأزمة مالية فباع ما لديه من كتب وعاد إلى أسوان واشتراها منه صديقه وتلميذه "علي أدهم"، كما أغلقت صحيفة الدستور، وتوفي الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، فأصيب العقاد بمرض صدري واتجه إلى أسوان، وهناك جمع بعض مقالاته وعهد بها إلى جورجي زيدان الذي قام بطبعها عام 1912 فكان أول كتاب يطبع للعقاد.
وفي عام 1911 عاد مرة أخرى من أسوان إلى القاهرة واشترك في تحرير مجلة "البيان"، وتعرف على عبد القادر المازني وتوثقت الصلة بينهما.
* أعماله ل ه عدة دواوين منها ( وحي الأربعين، هدية الكروانة، عابر سبيل، أعاصير مغرب، وغيرها)، وقدم العقاد فيضًا رائعًا من مؤلفاته الخالدة منها: أبو الشهداء، والحسين بن علي، وداعي السماء، ومؤذن الرسول بلال، وعبقرية خالد بن الوليد التي كانت بداية سلسلة العبقريات، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 عاد العقاد إلى بيته وأخذ يكتب العبقريات الإسلامية أهمها: "عبقرية محمد"، و"عبقرية عمر، وعين عضوًا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ومقررًا للجنة الشعر، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وتوفي في 12 مارس 1964 ودفن بأسوان.