تكن قضية خالد سعيد قضية تعذيب، وإنما هى اغتيال مواطن تمسك بحقه فى معرفة أسباب الإصرار على تفتيشه والتحقق من شخصيته من جانب رجال الأمن الذين يفترضون أن تحقق المواطن من احترامهم للقانون هو من قبيل مقاومة السلطات يتطلب مسح المواطن من الوجود.
فقد أصبحت الروايات يومية حول ابتدار الشرطة للمواطن سواء كان شاكياً أو مشكواً فى حقه بالإهانة بالكلمات والتعدى بالضرب، مما جعل صورة رجل الشرطة غريبة على مدركات المصريين. لقد كان واضحاً أن رجال الأمن كانوا ينوون اغتيال خالد سعيد، والأدلة كثيرة منها ما أفاد به الشهود من أن أحدهما أكد لخالد سعيد أنه لن يتركه إلا ميتاً، وعندما نبهه إلى أنه يموت ويجب أن يكف عن الاستمرار فى ضربه، نهره الشرطى وقال له إنك ميت ميت وكأنما جاء بأمر القتل فى يده.
وكان يمكن اعتبار موقف عناصر الأمن انفلاتاً أمنياً أو خروجاً على الانضباط الواجب لو كانت وزارة الداخلية قد أصدرت بياناً أبدت فيه تعاطفها مع الضحية ووعدت بالتحقيق فى الجريمة، ولكن أخطر ما فى قضية خالد هو أن وزارة الداخلية أصدرت بياناً عاجلاً قطعت فيه القول فى هذا الشأن، ثم حامت الشبهات حول عمل الطب الشرعى، أى أن المشكلة لم تعد موت مواطن وانتهاك الحق فى الأمن واحترام قاعدة أن المتهم، مهما كانت خطورة الاتهام، يظل بريئاً حتى تثبت إدانته.
معنى ذلك أن البيان، حتى دون تدارك الأمر بتصحيحه قد أضاف إلى عدم مصداقية الحكومة، ولكنه أخطر عندما يتعلق الأمر بالأمن، فلم يعد الناس يأمنون على أنفسهم وتسرب الخوف إلى نفوسهم وتعبأ ضد الشرطة بمجرد محاولتها الاستعلام أو التحقق حتى من رخص السيارات، وحين يصبح الأمن هو مصدر الفزع، وحين يصبح كل ما هو حكومى مدعاة للشك، وبيانات المسؤولين مدعاة للحيرة، يفتقد المصرى الأمن فى كل شىء، فى بيئته وغذائه وسكنه وأمنه الشخصى وعلاجه، ثم كانت النقلة الثانية الأخطر أن بيان الداخلية بدلاً من أن يتسم بالجدية والمسؤولية التى تليق بدولة يتوقع منها المواطنون المصداقية والثقة لقى نقداً شديداً وأصبح تدخل الخارج أمراً طبيعياً، فتسبب هذا الموقف فى النيل من مصر العزيزة بسبب تصرفات غير مسؤولة من الشرطة والطب الشرعى، ولكن تدخل النيابة حفظ جزءاً من ماء الوجه، خاصة أن الشرطة لاتزال تصر على موقفها وترهن صورة مصر وأمن أبنائها ببعض العناصر الإجرامية فى صفوفها، ولكنها تلقى الحماية من الرؤساء.
لابد أن يدرك الجميع أن أمن المواطن وكرامته وكرامة مصر أثمن من أى فرد مهما علا إذا كان الخطأ واضحاً والضرر فادحاً فاضحاً، إذ يصبح التستر على هذا الجرم فضيحة أكبر، وأنه من الفضائل أن نصرح بالحق، فذلك أجدى لسمعة الشرطة ورجالها، وهم فى النهاية أبناؤنا، ولكن المعالجات السطحية الساذجة التى تستخف بالجرائم هى التى تورد الوطن وأهله مورد التهلكة.
لقد كان احتجاج الناس على اغتيال خالد سعيد صرخة قلق على وطن ومواطن ضد نظام بأكمله، وإن كان المسؤول الأول عن الجريمة هو إحدى وزاراته، ولكن الصرخة كانت طلباً للأمن والحرية.
لقد تحرر الوطن من الاحتلال الأجنبى، وها هو المواطن يريد أن يتحرر من العوز والخوف والقيود التى تمنعه من تقرير مصيره، وأن يصبح الأمن فى خدمة المواطن، لا أن يكون هاجساً فى حياته التى لم يعد يرى معالجة سياسية أو اجتماعية لمشاكلها، بل طغى الأمن على كل شىء، وبهذا الخطر الذى تمثله حادثة اغتيال خالد سعيد.
لابد من محاسبة المسؤولين حتى يستعيد الناس الثقة فى شرطتهم، ولا أظن أن امتهان كرامة المواطن يشرف جهاز الأمن فى مصر، فقد نشأت لحمايتهم لا لإرهابهم، وأن الشعب ينفق من قوته عليهم طلباً للأمن، فلا يليق أن يخيب الأمن ظنهم، أن يرد الإحسان بالإساءة.
من الواضح أن تواتر حوادث التعذيب فى مصر بقدر ما يدفع الخارج إلى التدخل فى مصر ويعطيه ذريعة أخلاقية ودوافع سياسية، فإن هذه الحوادث تبنى سدوداً من الكراهية بين المواطن والأمن، وتشجع المظلومين والمجرمين على السواء على الاجتراء على عناصر الأمن، وقد سجل الملاحظون عدداً من هذه الأحداث.
وإذا تواكب تعذيب المواطن مع ظواهر إهانته مع تفشى حوادث القتل البشعة وعدم وجود عدالة ناجزة، فإن هيبة الدولة تنتهى، ويصبح المواطن فى حيرة فى طريقة حماية نفسه من البلطجية فى الشارع ومن السلطة الرسمية وأدواتها، ناهيك عن المطاردة المالية بالضرائب وانهيار الخدمات وتجاوزات المرور ومخاطر الطرق من الناس ومن سوء الطرق ذاتها، وأغلب الظن أن يلجأ المواطن إلى الدفاع عن نفسه بوسائله حين تسقط هيبة القانون، ويواجه سلوك العصابة من الدولة ومن الشارع، الأمر الذى يفقد المواطن الشعور بالأمن فى وطنه.
لابد من الحزم فى احترام القانون والقضاء وأن تضرب السلطة المثل والقدوة فى هذا الاحترام، لأن الأمن هو صمام الأمان للمواطن والوطن، والأمن بلا قانون يصبح أقرب إلى عمل العصابات.
var BDiv = document.getElementById("B20Div"); if(BDiv != null) { setTimeout("copy('B20Div','B20DivTemp')", 1000); }
|
GA_googleFillSlot('Beforcomments_1');
|