هدى سيد
رحلة الحياة بحرٌ هادِرَةٌ مياهه، تمر بنا السنين وتعصف بنا كثيرا أمواجه المتلاطمة.. تهب الرياح في كل فترة.. قد تأتي هادئة تارة، وعاصفةً تارة أخرى . تتأرجح بنا السفينة، وقد تميل مَيْلًا عظيمًا.. فقد بدأ الشيب يغزو الرأس، وزَحَفَتِ التجاعيد على قسمات الوجوه؛ لِتُعْلِنَ قرب مرحلة جديدة في حياتنا، وبدلًا من أن يتنَسَّم الزوجان نسماتها الهادئة بعد استقرارٍ وتفاهُمٍ طيلةَ السنوات الماضية، قد تأتي مُحَمَّلَةً برياح عاصفة، تُغَيِّرُ كل شيء حولها، وقد تؤدي إلى غرق السفينة، إلا من يستطيع أن يتجاوزها ..
إنها أزمة منتصف العمر عند الرجل.. لماذا تحدث؟ وهل يمر بها كل الرجال؟ وكيف يمكن تجاوزها والوصول بالحياة الزوجية إلى بر الأمان؟! هذا ما نحاول عرض صورة منه في التحقيق التالي .
مهندس في الـ45 من عمره، متزوج وعنده أبناء، معروفٌ عنه الجِدِّيَّةُ والصرامة والالتزام، واهتمامُهُ الشديد بِبَيْتِهِ وعَمَلِهِ، إلا أنه لُوحِظَ عليه في الفترة الأخيرة بعضُ التغيرات.. أصبح كثيرَ السهر مع أصحابه، ودخل بعض المسارح، يجلس على المقهى.. غَيَّرَ طاقم السكرتارية بمجموعة من الفتيات الصغيرات ذوات المظهر الجذاب.. يتغيَّبُ كثيرا عن تلبية حاجات أسرته.. وهذا لم يَعْهَدْهُ أحدٌ من قبل عليه، وليس هذا فقط.. بل إنه تَعَرَّفَ أيضا على بنات في عمر أبنائه، وأصبح يُغْدِقُ عليهن الهدايا الثمينة، رغم ما عُرِفَ عنه من حرصه الشديد!
أستاذ كبير ومتخصص في إحدى المجالات الطبية الهامة اقترب عمره من الـ50.. بدا عليه في الآونة الأخيرة عدم اهتمامه بعمله، وإحساسه بعدم جدوى ما يفعله، وما وصل إليه من إنجازات كبيرة.. بدأ يُقَلِّلُ من نجاحه، وأصبح كثيرَ النسيان والشرود، وألحَّتْ عليه أسئلة كثيرة عن جدوى الحياة ومصير الإنسان .
محاسبٌ ..تخطى الأربعين بعدة سنوات، وكان معروفًا عنه في محيط عمله بكثرة علاقاته، وإقباله على مُتَعِ الدنيا، ووَلَعُه بالسهر والتدخين.. ثم تغير فجأةً، فترك كل هذه الأخطاء، وأطْلَقَ لحيته، وأصبح يَحْرِصُ على الصلاة في وقتها، وفي المسجد، وذهب لأداء العمرة، وانشغل بالعديد من الأنشطة الخيرية في مسجد الحي الذي يسكن فيه .
ترقيع الذات
يقول د /محمد المهدي، استشاري الطب النفسي: إن أزمة منتصف العمر عند الرجل ليس لها وقت محدد، فقد تأتي بين سن الـ40 والـ50.. وفي هذه الفترة يقف الرجل عند مفترق الطرق، ويُجْرِي عمليةَ محاسبةٍ لنفسه عن ماضيه وحاضره ومستقبله.. فقد يرى الماضي حِمْلًا ثقيلًا عليه، فهو غير راض عنه، ولم يحقق أحلامه التي تَطَلَّعَ إليها..
وقد ينظر إلى الحاضر نظرة يائسة، ويرى نفسه قد ضَيَّعَ عمره، وقدّم كثيرًا من التضحيات من أجل استقرار أسرته، ومع ذلك لا أَحَدَ يُقَدِّرُ له هذا.. أما المستقبل فهذا ما يجب أن يعيشه بكل ما ينتظره فيه من بهجةٍ وُمْتَعٍة وتجديدٍ كما يظن.. ومن ثَمَّ تتغير أولوياته في الحياة، ويتصرَّفُ وفق هذا الإحساس.. فمع شعوره بالفراغ العاطفي نتيجةَ انصراف الزوجة عنه لعالمها، ومسئولِيَّتِهَا، ومشاكل الأبناء، ومع كثرة ضغوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكثرة الإغراءات والفتن من حوله، فيحاول الهروب إلى حياةٍ جديدةٍ خاليةٍ من المسئولية والروتين، ومليئةٍ بالشباب والصحة والمتعة .
ويكمل د / هاني السبكي، استشاري الطب النفسي الحديث، فيقول :سن الأربعين بشكل عام مرحلةٌ مُهِمَّةٌ في حياة الإنسان، سواء كان رجلًا أو امرأة.. فهي مرحلة النضوج الفكري، والقدرة على التحمل والاستقرار العملي والأسري، إلا أنها تفتقر إلى النشاط العاطفي بين الزوجين؛ لكبر الأبناء، وهدوء وتيرة الحياة، وبرودة المشاعر بينهما تدريجيًّا، وأحيانًا تكون الأزمة عند الرجل ناتجةً عن عدم النضج العاطفي، وعدم إشباع تلك المشاعر في سن المراهقة والشباب، وفي هذه الحالة يجب اللجوء للطبيب النفسي؛ حتى لا تتفاقم الأزمة، وتؤدي إلى نتائج وخيمة على الأسرة، كما بَيَّنَتْها كثيرٌ من الأعمال الدرامية التي عرضت مثل هذه الأزمة عند الرجل، عندما يتصابى، ويدخل في مرحلةِ مُرَاهَقَةٍ جديدة .
ومن علامات هذه المرحلة الشعورُ بالتوتر المستمر، وتراجُعُ القدرة على تعَلُّمِ مهارات جديدة، والرغبةُ في الوحدة، والمللُ من الروتين، والرغبةُ الجارفة في تغيير المظهر، والمبالغة الشديدة في الاهتمام بالهندام والزينة، والتعبيرُ المستمر عن الحنين للماضي، والشعور بضياع شبابه، وأنه لا بد أن يدرك ما هو آت، فيفقد اهتمامه بزوجته وأبنائه، وتظهر عليه علامات الاكتئاب، كالنوم الكثير، وفقدان الشهية، وكثرة الشكوى من كل شيء.
وقد يؤدي الملل، والفتور الزوجي، وعدم تكيف الطرفين مع رغبات الآخر في هذا السن، إلى الانفصام النفسي والوجداني والفكري، وقد تكون تَصَرُّفَاتُ الزوج محاولاتٍ لترقيع الذات، ورَأْبِ ما تصدَّع منه، أو المراهقة الثانية، أو الطلاق العاطفي.. فهي عملية نفسية قد يشترك فيها الزوجان.. فالأزمة تبدأ بهذه التغيرات، وكثرة المشاحنات والمشاكسات بين الزوجين تؤدي إلى تفاقمها.. ثم تنتقل إلى مرحلة هجر البيت، والتخلي عن مسئولية الزوجة والأبناء، واللجوء إلى الفضائيات والإنترنت، وقضاء الوقت في البحث عن اللهو غير المباح .
كل الرجال وكل النساء
ومن الناحية الاجتماعية يُوَضِّحُ د أحمد عبد الله؛ مستشار اجتماعي أن الرجل في المجتمعات العربية ينظر إلى المرأة التي وصلت سن الـ 40 بأنها متقدمة في العمر، وبالتالي لن تستطيع أن تُلَبِّيَ حاجاته المتعددة، وفي الوقت نفسه يتمسك الرجل- مهما وصل به العمر- إلى إثبات قدرته الجسدية دومًا.. لذلك قد يصل الأمر بهما إلى الطلاق، ويتزوج هو فتاة صغيرة في سن بناته، أو تتعدد علاقاته النسائية، وغالبها يكون خارج إطار الشرع.
وأكثر ما يدمر المرأة هو الطلاق في سن متقدم، أو هَجْرُها والبحث عن الأخرى التي تعيد إليه شبابه.
وفي دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، تشير إلى أن أغلب حالات الطلاق بعد الخمسين ترجع إلى العزوف العاطفي، وتبلُّدِ المشاعر بين الزوجين، وبحث الزوج دومًا عن تجديد المشاعر، وامرأةٍ تُلَبِّي حاجَتَهُ النفسية والجسدية، فالمرأة تبحث عن كل الرجال في رجل واحد، وهو زوجها، وكذلك الرجل يريد أن يجد كل النساء في امرأته، فعلى الزوجة أن تكون هي هذه المرأة .
كي تَمُرَّ بأمان
ولكي تمر أزمة منتصف العمر بأمان، ينصح د أحمد الرجل أن يعيش كل مرحلة من مراحل حياته كما هي، وبما يتناسب معها، ولا يستبدل مرحلة بأخرى، وأن ينظر إلى الحاضر "بهدوء، ويتذكر الماضي بابتسامة، ويتفاءل بأن يكون المستقبل أفضل من كافة النواحي؛ ففيه سيجني ثمار ما زرعه عبر السنين الماضية، وعليه أنْ يكون أكثرَ نضوجًا، وألّا ينظر إلى زوجته مهما كبرت على أنها امرأة لم يعد لوجودها قيمة، فقد تكون هذه المرحلة من أجمل مراحل الحياة .
وعلى الزوجة أن تتفهم حالة زوجها، ولا تُكْثِرَ من الاتهام واللوم والعتاب والنقد على كل صغيرة وكبيرة، بل عليها أن تعزف بذكاء على أوتار وجدانه وأحاسيسه، وتحاول من جديدٍ إظهارَ نُضْجِهِ العقلي والريادي في قيادة الأسرة، وأن تخرج من بوتقة الروتين في تعاملها معه في كل متطلباته، وتحرص دومًا على التجديد والتغيير لِيُحَقِّقَا السعادة معًا .
أما د / محمد المهدي فيقول: لا بُدَّ من الاستعداد لمواجهة الأزمة قبل حدوثها، وذلك بتحقيق إنجازاتٍ حقيقيةٍ راسخةٍ ومتراكمةٍ في مرحلة الشباب، ولا نضيع سنوات الإنتاج هباءً، وأن يكون هناك توازنٌ بين عطائنا لأنفسنا وللآخرين؛ حتى لا تأتي اللحظة التي نَشْعُرُ فيها بصدمة عدم تقديرهم لما بَذَلْنَاه من أجل راحتهم وسعادتهم . لابد أن تكون لدينا أهدافٌ نبيلة نسعى إلى تحقيقها، وأهدافٌ بديلةٌ إذا لم نتمكن من تحقيق الأولى، فالبدائل تقي المرء من اليأس، والوقوفِ في الطريق المسدود بل تفتح له دوما طرق أخرى جديدة . علينا أن ننظر إلى حياتنا نظرة شاملة وواسعة ولا تقف عند حدود الجسد، وما يطرأ عليه من تغيرات، فإن الله لا ينظر إلى صُوَرِكُم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.. فلا ضَيْرَ أن يمر الشباب، وتأتِيَ مرحلة النضوج، والهدوء، والاستقرار، واكتساب الخبرات على كافة المستويات.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة من الحياة إشارةً بليغةً، ووضَّحَ كيفية التعامل معها بشكل متوازن، يقول تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الأحقاف 15 ، 16)
في هذا المشهد نرى مَنْ بلغ الأربعين يعيش حالةَ وعي ممتدةً ومتعددةَ المستويات، فهو يستشعر وجود الله، ويشكره على نِعَمِهِ التي أعطاه إياها..ويذكر السنين الماضية، ويذكر والديه كجيل سابق، وكيف أنعم الله عليهم، ويذكر ذُرِّيَّته كجيل لاحق، ويسأل لهم الصلاح، ويتذكر نفسه بينهما، فيُعْلِنُ توبَتَه، ويسأل الله أن يوفقه للعمل الصالح؛ كي يكمل مسيرة الآباء، ويكونَ قُدْوَةً للأبناء، في رحلةٍ نَقِيَّةٍ وطاهِرَةٍ ونظيفةٍ، يتقبلها الله منه، ويُطَمْئِنُهُ بحسن الثواب، وهو الجنة .