الإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال المثالية الواهمة ، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع . ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع . ولكنه يعاملهم بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
لذلك لم يفرض على الناس ( ولم يفترض فيهم ) أن يكون كل كلامهم ذِكْرا ، وكل صمتهم فكرا ، وكل سماعهم قرآنا ، وكل فراغهم في المسجد . وإنما اعترف بهم وبفطرهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم سبحانه يفرحون ويمرحون ، ويضحكون ويلعبون ، كما خلقهم يأكلون ويشربون .
ولقد بلغ السمو الروحي ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا ظنوا معه أن الجد الصارم، والتعبد الدائم ، لا بد أن يكون ديدنهم ، وأن عليهم أن يديروا ظهورهم لكل متع الحياة ، وطيبات الدنيا، فلا يلهون ولا يلعبون ، بل تظل أبصارهم مشدودة إلى السماء ، وأفكارهم متجهة إلى الآخرة ومعانيها، بعيدة عن الحياة ولهوها. وتظل أعينهم من خشية الله دامعة ، وقلوبهم من ذكر الله خاشعة ، وأكفهم إلى الله ضارعة ، فإذا تخلوا عن هذه الحال الربانية الراقية بعض الأوقات اتهموا أنفسهم بالنفاق.
ولنستمع إلى حديث هذا الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي (وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال يحدثنا عن نفسه : لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟.
قلت: نافق حنظلة !!.
قال: سبحان الله ، ما تقول؟
قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ( أي كأنا بحال من يراهما بعينه ) فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا ( لاعبنا ) الأزواج والأولاد والضيعات ( معاش الإنسان من مال أو حرفة ) فنسينا كثيرا!!.
قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا !.
قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت: نافق حنظلة يا رسول الله !.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟؟.
قلت: يا رسول الله.. نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ".
أي كرر عليه الصلاة والسلام كلمة (ساعة وساعة) ثلاث مرات، تأكيدا لأهميتها.
واقتباسا من هذا الحديث أخذ الناس مثلهم القائل: ساعة لقلبك، وساعة لربك.
وقد روى الأصمعي أنه رأى امرأة في البادية ، قامت فصلت صلاة متقنة مطمئنة ، فلما فرغت من الصلاة وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين . فقال لها الأصمعي: أين هذا من هذا ؟ فأنشدت تقول:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب!
قال: فعرفت أنها امرأة ذات زوج تتجمل له ، وتتحبب إليه .
ومن الحكم المأثورة: ينبغي ألا يكون العاقل ظاعنا إلا لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد ، أو لذة في غير محرم.
والمثل الإنساني الأعلى ، والأسوة الإنسانية المثلى ، في ذلك هو الرسول الخاتم سيدنا محمد ( صلى الله تعالى عليه وسلم ) ، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مثالا رائعا للحياة الإنسانية المتكاملة . فهو في خلوته يصلي ويطيل الخشوع والبكاء حتى تتورم قدماه، وهو في الحق لا يبالي بأحد في جنب الله ، ولكنه مع الحياة والناس بشر سوِّي ، يحب الطيبات، ويبش ويبتسم ، ويداعب ويمزح ، ولا يقول إلا حقا.
كان صلى الله عليه وسلم يحب السرور وما يجلبه ، ويكره الحزن وما يدفع إليه من ديون ومتاعب ، ويستعيذ بالله من شره، ويقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن " .
وما يروى عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : " لست من دد ولا الدد مني" والدد : اللهو واللعب ، فهو حديث ضعيف ، لا يبنى عليه حكم . على أنه لو سلم بثبوته لكان معناه: أن أعباء الرسالة ، وهموم الدعوة والأمة ، وإقامة دين الله في الأرض ، ومواجهة الجبهات المعادية لدعوته من الوثنيين واليهود والمنافقين وغيرهم ، لم تترك له مجالا للهو في حياته .
وهذا لا يستلزم تحريم اللهو واللعب. وهذا كما يقول أحدنا: أنا لا أعرف الإجازات، فلا يعني هذا: أن الإجازات محظورة ، ولكن معناه أن ظروفه لا تسمح بالإجازات.
ولذا رد العلامة المناوي على من استدل بالحديث على تحريم الغناء ونحوه مثل القرطبي ، قال: وهذا ليس بسديد، إذ ليس كل لعب ولهو محرما، بدليل لعب الحبشة بمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم بمشهده.
القلوب تمل:
وكذلك كان أصحابه الطيبون الطاهرون ، يمزحون ويضحكون ويلعبون ويتندرون ، معرفة منهم بحظ النفس ، وتلبية لنداء الفطرة ، وتمكينا للقلوب من حقها في الراحة . واللهو البريء، لتكون أقدر على مواصلة السير في طريق الجد، وإنه لطريق طويل.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : روحوا عن القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة ، فإنها تمل كما تمل الأبدان .