ولد برناردشو عام 1856 م في أسرة بروتستنتية، وكانت أمه في مبدأ حياتها تعيش مع عمة لها حريصة على أن تغذيها بمبادئ الدين المسيحي، لكنها لم تعن بأن ترى جورج برناردشو على ما تعلمته، بل آثرت أن تعلمه الموسيقى، وكانت تحسب أن ذلك خير له وأجدى. وكان أبوه متلافأ سكيرا لا يعني بالدين إلا قليلاً، وكان له خال يصرح بعدائه للدين، ولم يكد شو يبلغ الحلم حتى هجر الكنسية وعزف عن أنواع الطقوس التى تقام فيها.
كان ذلك في مكان اسمه توركاهل Torca Hill حيث كان يقضي الصيف، وكان يسير عند الغروب على التلال الجرداء، وكان الجو جميلاً والسماء صافية وأضواء النجوم والكواكب قد بدأت تتألق، فظل الفتى يمعن في التفكير كلما أمعن في السير، وجرد من نفسه حكماً على نفسه.
كان إلى ذلك اليوم حريصاً على أن يذهب إلى الكنسية في كل يوم أحد. وكان حريصاً على أن يصلي صلاة لله كلما استقبل فراشه، ولكنه في ذلك اليوم وجد أن الصلاة لم تكن إلا عادة، وكذلك وجد الفتى برنارد شو نفسه في محنة عقلية حيرته وزعزعت إيمانه.
وكان في التاسعة عشرة من عمره حين هبط دبلن بعض الدعاة الدينيين، وعقدوا في بعض المعارض اجتماعا دينياً حضره كثير من أهل المدينة، وعلقت الصحف عليه واجمعت على أنه كان اجتماعاً ناجحاً، وأنه دليل على ما كان للشعور الديني من مكانة في أ فئدة الناس، وعلى ما كان لهذه الجماعة الدينية من تقدير في النفوس، ولكن الفتى برنارد شو يخرج على الناس بخطاب يحاول أن يحلل فيه العوامل التي دفعت الناس إلى هذا الاجتماع الديني، فهو يعزو الأمر جميعه إلى أسباب لا تمت إلى الدين بصلة! وهو يرى أن الناس قد اجتمعوا لأن حبهم للاستطلاع دفعهم لرؤية هؤلاء الدعاة الدينيين، ولأنهم كانوا يريدون أن يروا العرض من دون أن يستمعوا إلى الوعظ الديني، وهذه الحادثة تمثل لنا برناردشو في حياة النضال والمعارضة التي عاشها، وسيحاول في قصصه ومقالاته ورواياته أن يسخر من الشكليات التي يحسب الناس أنها هي الدين، وما هي عنده بالدين.
المثل الأعلى
أما المثل الأعلى للشخصية الدينية عنده فهو محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يتمثل في النبي العربي تلك الحماسة الدينية وذلك الجهاد في سبيل التحرر من السلطة، وهو يرى أن خير ما في حياة النبي أنه لم يدّع سلطة دينية سخرها في مأرب ديني، ولم يحاول أن يسيطر على قول المؤمنين، ولا أن يحول بين المؤمن وربه، ولم يفرض على المسلمين أن يتخذوه وسيلة لله تعالى، ولسنا ندري على التحقيق في أي الكتب درس برنارد شو تاريخ النبي، ولا التطور العقلي الذي درج فيه حتى وصل إلى هذه المبادئ، ولكن لعله قد نقل الفكرة- أول ما نقلها- عن توماس كاريل حين اتخذ حياة النبي مثلاً لبطولة الرسل والأنبياء، ولعله بعد ذلك قرأ عن النبي في بعض ما كتبه المستشرقون، على أن شيئاً واحداً يثبت عندنا من كل ذلك، هو أنه قرأ القرآن الكريم قراءة الفاحص الدارس، وتشبع بروح القرآن الكريم في كثير مما كتبه عن النبي وعن الإسلام.
الحياة الجهاد
كان برنارد شو معجباً بالنبي، وكان يرى في حياة الجهاد التي عاشها النبي شبهاً بالحياة المثالية التي أراد هو نفسه أن يعيشها، وبلغ به الإعجاب أن حاول قبل سنة 1910م أن يكتب مسرحية عن "محمد"، إنه يعلم أن التمثيل أقوى أنواع الدعاية، وأن كتابة المسرحية أسمى أنواع الفن، فلا عليه بعد ذلك إذا حاول أن يصور بطله الديني في مسرحية عامة، ثم هو يعلم أيضاً أن المسرحية لا تكتب لتمثل فقط ولا ليراها الناس فحسب، بل هو يعلم إلى ذلك إنه سيكتب للمسرحية مقدمة، وسينشر في هذه المقدمة آراءه الدينية من حيث الكفاح في سبيل حرية الرأي، ومن حيث الخلاص من التعصب الأعمى، ومن حيث التحرر من استبعاد السلطة، لقد أراد أن يكتب مسرحية "محمد" ليلقي بآرائه هذه في صعيد واحد.
الرقابة ترفض
وحينما بدت منه هذه الرغبة جبهته التقاليد التي درجت عليها إنجلترة في مسائل المسرح، ففي إنجلترة وظيفة ورثها البلاط الإنجليزي من عهد الملكة إليزابت، وعلى صاحب هذه الوظيفة أن يقرأ كل مسرحية قبل تمثيلها، وعليه بعد ذلك أن يصادق عليها أو يلغيها، وتقدم برنارد شو برغبته في كتابة مسرحية عن "محمد" إلى صاحب هذه الرقابة، لكن صاحب الرقابة رفض التصريح له بذلك، وقال في رفضه: إنه لا يجوز أن يمثل النبي العربي على خشبة المسرح، فقد يحتج على ذلك السفير التركي، وقد يؤدي ذلك إلى الجفوة بين إنجلترة وتركيا، ولعل السفير التركي هو الذي أبدى امتعاضه لمجرد التفكير في تمثيل النبي، لأنه أسمى من أن يكون موضوعاً للتمثيل.
جان دارك
ومهما يكن من شيء فإن هذا يدلنا على مبلغ الإعجاب الذي يكنه برناردشو لمحمد صلى الله عليه وسلم، على أنه حين رأى أنه من المحال أن يكتب تمثيلية عن محمد، كتب بعد ذلك بعشرة أعوام تمثيلية عن "جان دارك"، وفي هذه القصة حاول أن يصور الفتاة الفرنسية في صورة القديسة التي تؤمن بالوحي الإلهي؛ ثم أن يجعلها في موقف تدافع فيه عن الفكرة لا بلسانها فحسب، ولا بقلبها فقط، ولا بيدها لا غير؛ بل تدافع عنها بكل ذلك وبحد السيف أيضاً، ألست ترى في ذلك تحايلاً على تصوير الجهاد الديني في سبيل الفكرة؟ ثم ألست تراه جهاداً يشبه ذلك الذي قام به النبي؟ كل ذلك كان بعض ما عالجه في الرسائل والمقالات التي أنشأها من قبل ومن بعد، والعلاقة واضحة بين اختياره موضوع النبي وبين اختيار موضوع جان دارك، وهي واضحة من الفقرات الكثيرة التي يتحدث فيها النبي في محاكمة جان دارك.
محاكم التفتيش
كانت جان دارك-عند برنارد شو- مؤمنة إيماناً قوياً، كانت تدعو إلى إنقاذ فرنسا فلبت النداء، لكنها في جهادها ارتطمت بكثير من أنواع السلطة، فماتت شهيدة وهي تجاهد في سبيل الإيمان، لقد ارتطمت بسلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش من ناحية وارتطمت بسلطة الأمراء الإقطاعيين من ناحية أخرى، وارتطمت بسلطة القومية الإنجليزية الناشئة من ناحية ثالثة، وعلى الرغم من أن هذه السلطات كانت كلها متضاربة متخالفة، فإنها اجتمعت على الفتاة فخرت صريعة في سبيل الإيمان، كانت كل سلطة من هؤلاء تريد أن تثني جان دارك عن مثلها الأعلى، وأعدت كل واحدة منها وسائل التعذيب والتشهير، لكنها ظلت مؤمنة لا تميل ولا تنثني. عرض عليها المطران صاحب محاكم التفتيش أن تستغفر حتى تؤوب ثانية إلى كنيسة الله، وعرض عليها القائد الإنجليزي أن تتخلى عن فكرة تحرير فرنسا، ثم لما رأوا أنه لا سبيل إلى شيء من ذلك أحرقوها، فاحرقوا منها الجسد، لكن روحها هي التي لا تزال تسري إلى اليوم؛ لأنها روح الفكرة، والفكرة خالدة لا يعمل فيها الحديد ولا النار، وكذلك ترى في هذه التمثيلية شعور برنارد شو، وتحس موجدته على رجال الدين وسخريته بأنواع الذرائع التي اتخذوها ليقرروا إحراق الفتاة الشهيدة.
تلك لمحة في آراء برنارد شو فيما يتصل بالعلاقة بين الدين و المتدينين، إنه يكره من الدين إذن هذا التحايل من أجل إدراك السلطة، وهو يكره القسوة التي تقترف باسم الدين، فثار برنارد شو على كل ذلك، ولم يستطع أن يقر أهل الدين على ما ذهبوا إليه، ولعل في قصة جان دارك مثلاُ للقسوة التي أراد أن يثور عليها، وشيء آخر أثار برنارد شو على أهل الدين في عصره، ذلك هو التعصب، لقد احترف التفكير، وكان في تفكيره يميل إلى النقاش وقرع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وكان يتخذ في تدليله طريقة سقراط في تفنيد كل رأي حتى يصل إلى الرأي الأخير، فإذا هو وصل إليه لم يكن هناك بد من أن يدلك على مواطن الضعف في رأيه هو نفسه، فهو يضيق بالتعصب مهما تكن دوافعه، ويرى أن التعصب آفة الدين والعلم معاً، ونريد بعد كل هذا أن ندرس قليلاً مما كتبه عن "محمد" نريد أن ندرسه حتى نصور لأنفسنا ما عسى أن يكتبه برنارد شو لو اتيح له أن يكتب مسرحيته التي أرادها والتي لم يسمح له بها الرقباء. قلنا: إن هناك تشابها كثيراً بين مسرحية "جان دارك" والمسرحية التي فكر فيها عن "محمد"، وقلنا إنه حاول أن يضمن الأولى بعض الأفكار التي حاول تصويرها في الأخرى، على أنه في "جان دارك" ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات في معرض كلام طويل عن الأنبياء الذين يوحى إليهم، وكيف يلقون الصعاب والعقبات لأن الناس لا يؤمنون بهم، وهاك حديثاً بين كوشون- وهو أسقف بوفيه الفرنسي- وبين ورك وهو نبيل إنجليزي يستدل منه على الفكرة القومية التي كانت تملك على النبيل الإنجليزي كل نشاطه، وا لتي أتاحت له أن يكون متسامحاً في أمور الدين حريصاً على أمور الدنيا، وهو نقاش بعد ذلك بين عقلية متعصبة عمياء مثل عقلية كوشون وعقلية سمحة لا تتعصب للدين مثل عقلية ورك.
"كوشون" إن الكنسية ذخيرة من علم وحكمة وخبرة تجمعت على السنين والقرون، وبها مجالس من حكماء علماء بررة وأتقياء، فماذا يكون حال هذه الدنيا إذا ألقي بكل هذا التراث في المزارب والمزابل، كلما قام عامل أجير جاهل، أو قامت فلاحة حلابة بقر نفخها الشيطان بالغرور الفادح فألهمها أنها يوحى إليها من السماء؟....كيف يكون الحال إذا خالت كل فتاة أنها (جان دارك) وخال كل رجل أنه (محمد)؟ أنها حال تفزعني فزعاً لا فزع فوقه، حال حاربت كل حياتي لاتقائها، وسأحارب لاتقائها ما بقي من أيامي، أنا نغفر لهذه المرأة كل خطاياها إلا هذه، فهي خطيئة، في حق الروح القدس، إنها إذا لم تتنصل من دعواها، ,إذا لم تستغفر منها على الملأ وأنفها راغم، وإذا لم تخرج عن كل قيراط من روحها إلى الكنيسة، إذا هي لم تفعل كل هذا فإلى النار مأواها لو وقعت في يدي.
ورك- أنا رجل حرب لا رجل دين، وقد حججت إلى بيت الله المقدس، ورأيت بعضا من أتباع محمد، فلم أجدهم من سوء الأدب بالمكانة التي أفهمونيها قبلاً، بل وجدت لهم أدبا لا يقل من بعض الوجوه عن أدبنا.
كشون- إن الجندي الصليبي يعود من الشرق وهو نصف شرقي مسلم، دع أن الإنجليز جميعاً زنادقة من يوم يولدون.
ورك- إنك ما كنت لتقول هذا لو أنك شهدتنا نتجادل في الدين يا مولاي، وإنه ليعروني الأسف أن تظن بي الزندقة أو الغباوة، لا لسبب سوى أ ني طوفت في البلدان، فعرفت فيما عرفت أن أتباع محمد يحترمون المسيح احتراماً ظاهراً شديداً، وأنهم في تسامحهم أقرب أن يغفروا لبطرس القديس أنه كان سماكاً، من أن تغفر أنت يا مولاي لمحمد أنه كان جمالاً، أكثير يا سيدي أن أطلب منك أن تأخذ على الأقل ما نحن فيه الآن من غير تعصب وضيق ذهن.
-كوشون- إن الرجل إذا سمى غيرتي الكنسية وحميتي المسيحية تعصباً فقد تحللت في أمره وظننت به الظنون".
كذلك ترى ذلك الكفاح بين التعصب الأعمى وبين التسامح الديني، وكذلك تستطيع أن تلمح وأنت تقرأ جان دارك أن وراء ما يكتبه برنارد شو أفكاراً تروح وتغدو، فهناك الثورة على السلطة التي يدعيها رجال الدين فتلك فكرة أولى، وهناك فكرة التسامح الديني، وهذه فكرة ثانية، وهناك فكرة الجهاد- حتى بحد السيف- في سبيل الإيمان، وهذه فكرة ثالثة، وهناك فكرة الوحي الإلهي الذي يدفع المختارين من عباد الله إلى الجهاد، وهذه فكرة رابعة، وتستطيع أن تتخيل بعد ذلك أي مسرحية كان برنارد شو يكتبها لو أتيح له أن يكتب مسرحية عن "محمد"، فلا شك أنه كان يبرز هذه الأفكار الأربع، الواحدة تلو الأخرى ليؤلف بينها نسقاً واحداً عن حياة النبي العربي.
لقد ثار محمد على قريش، وأنكر السلطة الدينية التي كان يدعيها أصحاب الكعبة وسدنتها، ثم حطم الأصنام، ودعا إلى دين جديد، وجاهد في سبيل فكرته باللسان والبيان وبحد السيف، ثم إنه كان يفعل ذلك بوحي يتنزل عليه من عند الله تعالى، وكل هذه سلسلة متصلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن أن تبرز لقراء اللغة الإنجليزية لو صاغها برناردشو في أسلوبه المسرحي.
من اقول برنارد شو عن محمد صلى الله عليه وسلم :
إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
[b]
قرأت حياة رسول الإسلام جيدا مرات ومرات, فلم أجد فيها إلا الخُلٌق كما ينبغي أن يكون, وكم تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم
لو تولى العالم الأوروبي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة، بل يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشرائط اللازمة وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لقد تُنُبِّئتُ بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوروبا غداً وقد بدا يكون مقبولاً لديها اليوم، ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكل العالم.
[/b]