يخطئ التحليلَ كلُّ من يعتقد أن صواريخ القسام صُنِعَت لتكافئ عدد القتلى الصهاينة بأعداد الشهداء الفلسطينيين بالدرجة الأولى، ومخطئٌ في التفكير كلُّ من يعتقد أن المقاومة أقدمت على صنع الصواريخ لتحاجج بها الصواريخ التقليدية أو تنافس اسمها وحضورها في عالم الحرب، وموغل في ضعف التحليل كلُّ من يقارن أثرها على الأرض بأثر الصواريخ والمدفعية "الإسرائيلية"، بالتالي يطالب بوقفها على قاعدة "انعدام التكافؤ التفجيري".
من قال إن حماس تصنع الصواريخ لتصل إلى مرحلة "الردع العسكري المكافئ"؟! الكيان الصهيوني يمتلك ترسانةً عسكريةً متخَمة النوع والعدد، وهذا تعرفه فصائل المقاومة جيدًا، ولديه ساحة عسكرية خلفية اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يغدو الحديث عن تصنيع الصواريخ لإيجاد تماثل عسكري فَهْمًا يحتاج لعقليةٍ أكثر موضوعيةً لقراءة الحدث.
ثمة حاجة ماسة لتصحيح الأفهام التي تقول إن ميزان الكسب أو الخسارة في الحروب تحدِّده نِسَب القتلى بين الجنود أو المستوطنين (أو الشهداء) فقط، من يتبنَّى هذا الفهم عليه دراسة (ألف باء الحرب) من جديد.
هناك مفاهيم للربح العسكري، وهناك محدِّدات أخرى تفوق لغة أرقام القتلى؛ فحزب الله بعدد القتلى "خسر"، لكنه بمحددات الحرب الكلية "انتصر" بشهادة فينوجراد، والثورة الجزائرية قدَّمت مليون شهيد لقاء عدد غير متكافئ أبدًا من العسكر الفرنسيين، لكنها بمحددات المعركة الكلية كسبت، والثورة الكوبية فعلت وخسرت وكسبت، والثوار الفيتناميون والصوماليون لم ينهشوا من أجساد المارينز ودمائهم بقدر الإثخان العسكري الأمريكي فيهم، لكنهم "بالمعادلات الكلية" كسبوا المعركة وانتصروا.
دعونا نقترب أكثر من غاية وأهداف إطلاق الصواريخ، ثم دعونا نحدِّد دوافع ومنطلقات تصنيعها؛ حتى ندرك عن فَهْم وقُرْب: لماذا وُجدَت؟ ولماذا تُستعمل؟ رغم الفارق الشاهق بين فعلها والفعل الإجرامي الصاروخي الصهيوني على الأرض!.
ماذا تهدف المقاومة من وراء إطلاق الصواريخ؟
أولاً: الصواريخ أخرجت أسوار وجُدر العدوِّ الأمنية والإلكترونية وحواجزه العسكرية التي يُنفق عليها وعلى تطويرها الملايين خارج اللعبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتحييدها بالكامل عن ساحة المعركة والاستخدام.
ثانيًا: نزع روح الأمن والسلامة والسكينة من نفوس من يعتقدون أنهم في مأمن من سكان البلدات المحتلة القريبة في أراضي 48، وهو سلاح حساس جدًّا؛ فالمقاومة هنا تلغي منظومة الجيش الذي لا يُقهر في نفوس "الإسرائيليين" التي كانت تعطي "للإسرائيلي" روحًا معنويةً كبرى في التشبث بالأرض المحتلة ورفض تركها (الوصول القريب جدًّا من معادلة توازن الرعب).
ثالثًا: وصول الصاروخ المقاوم بحرية لقلب البلدات القريبة يجمِّد عروق التمدُّد السكاني الاستيطاني، ويستنزف أية أفكار أو مشاريع استثمارية أو بنى تحتية مستقبلية ويشلُّها بالكامل؛ فهي مهدَّدة كل وقت وكل حين، بالتالي يُحيل الصاروخ مخطِّطي هجرة اليهود العالمية لفلسطين وتسكينهم في الجنوب على التقاعد.
رابعًا: تشحن صواريخ المقاومة معنوية الشعب الفلسطيني الثاكل، وترفع إمكانية تطويرها من عزيمة المقاومين، وتحمِّس صنَّاعها إلى مزيد "جهوزية" وتطوير؛ وكل ذلك يصب في خانة الصمود أمام آلة الحرب "الإسرائيلية" ويزيد فرص تقدم النصر نقطة.
خامسًا: الزيادة المضطردة لمسافات الصواريخ بدأت تشكِّل هاجسًا حقيقيًّا وعبئًا أمنيًّا وماليًّا كبيرًا على الميزانية "الإسرائيلية" بالنظر للخشية من إمكان وصولها لأهداف ومنشآت عسكرية وحيوية مهمة، بالتالي بدأ رصد الميزانيات لتحصين تلك المواقع أو نقلها أو إيجاد طرق دفاع عنها.
سادسًا: بعد أكثر من 5 أعوام على ظهور صواريخ القسام، ما زال جيش الاحتلال "الإسرائيلي" يقف عاجزًا أمامها، رغم ترسانته العسكرية، وخبرته التكنولوجية، وقبضته القوية، على الرغم من عشرات العمليات التي نفَّذها لوقف الصواريخ، وهو ما يستنزف نظرة الإعجاب ومقولة الجيش الذي لا يقهر في عيون "الإسرائيليين" أنفسهم، بل وينخر في جدار المعنوية العالية التي يقال إن الجندي "الإسرائيلي" يُشحَن بها داخل المدارس العسكرية على الدوام.
سابعًا: كسرت صواريخ القسام كل خطط الكيان الصهيوني العسكرية ووضعت المؤسسة العسكرية ومنظِّري الحروب وسدنة المجازر والاجتياحات في مربع حرج أمام جنودهم وشعبهم؛ فلم تفلح اجتياحات وخطط: "أيام الندم وحقل الأشواك وجهنم المتدحرجة ورحلة بالألوان والمسار الحازم وفارس الليل وقوس قزح والسهم الجنوبي والطريق الحازم وأول الغيث وغيوم الخريف".. في وقف إطلاق الصواريخ أو تصنيعها أو تطويرها.
ثامنًا: وصول الصواريخ يعطي إشارةً حمراءَ لذهن المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية "الإسرائيلية" أن هناك من يفكِّر على الدوام بتغيير معادلات المعركة (لا نقول صوب التكافؤ) لكن صوب استنزاف خواصر طرية وغرس شوكة جديدة في ظهر العدو، تمامًا كما يفعل مصارع الثيران عند إيغال رمحه في ظهر الثور العنيد بداية الجولة.
ثمة العديد من الدوافع والمنطلقات والمسبِّبات التي تنطلق منها المقاومة الفلسطينية في استخدام هذه الصواريخ؛ من أبرزها:
أولاً: انعدام الدعم العسكري العربي للمقاومة؛ فدول كبرى مساحات الطوق الجغرافي مع الكيان الغاصب خرجت من حلبة الصراع بتوقيع معاهدات سلام (الأردن ومصر)، والإجماع العربي اختار طريق التسوية طريقًا وحيدًا لا رجعةَ عنه، بالتالي أصبح إمداد السلاح من أراضي تلك الدول للمقاومة جريمةً يعاقب عليها القانون، بالتالي لم يبقَ للمقاومة من بُدٍّ إلا الاعتماد على ذاتها.
ثانيًا: استخدام العدو الصهيوني آخر ما توصَّلت إليه أدوات الفتك العسكري بالبشر والشجر والحجر؛ ما أدى إلى زيادة بشاعة وأعداد حجم الجرائم بحق الشعب الفلسطيني بصورة مكثفة ومتصاعدة، وبكلفة أرواح بين جنوده أقل، بالتالي احتاجت المقاومة أمام تطور لغة الحرب الصهيونية إلى رفع مستوى تكتيكها وأدواتها لتلائم طبيعة المرحلة.
ثالثًا: أهمية إشعار العدو الصهيوني أن المقاومة الفلسطينية في حالة تطور مستمر، وأن لديها عدة خيارات موجعة بالإمكان استخدامها في الوقت والزمان المناسبين، وأن لديها عقولاً عسكريةً تُواصل الاجتهاد العسكري ليل نهار لإحداث نقلات نوعية في أدوات المواجهة.
رابعًا: حق المقاومة مشروع بالشرائع السماوية والأرضية، وإبقاء جذوة المقاومة مشتعلةً واجب ديني ووطني؛ ما يدفع المقاومين إلى استثمار كل الوسائل، ومن ضمنها الصواريخ لإنهاك قدرات العدو واستنزافه.
إن الأثر الكبير لفاعلية الصواريخ يمكن تلمُّسها عن قرب من خلال مقالات وتحليلات "الإسرائيليين" أنفسهم، ولعل الاقتراب من لغة الأرقام التي تنشرها الصحف "الإسرائيلية" يفتح مجالاً أمام المراقب لقراءةٍ تقترب من الأهداف الفعلية والبعيدة التي رسمتها المقاومة لإطلاق الصواريخ؛ فجريدة (معاريف) الإسرائيلية قالت إن صورايخ القسام التي أُطلقت عام (2007م) فقط تسبَّبت في خسائر مالية كبيرة للمصانع والشركات والمستوطنات قُدِّرت بشكل مبدئي في مستوطنتين بأكثر من عشرة ملايين دولار، وقدَّرت الأجهزة الأمنية للاحتلال الكلفة الأولية لتحصين المباني في المستعمرات المحاذية لقطاع غزة بأكثر من واحد وعشرين مليون دولار أمريكي.
لقد دفعت صواريخ المقاومة التي وصلت عسقلان وزارة الحرب "الإسرائيلية" إلى فتح كراسات جديدة بشأن التكاليف الكبيرة التي ستنفق على تطوير "منظومة أسلحة لإسقاط الصواريخ"، والتي تصل إلى مليار شيكل، فضلاً عن تكاليف إطلاق كل صاروخ لإسقاط القسام، والتي تتراوح ما بين 50- 100 ألف دولار، والتي كما قال أولمرت لن تكون جاهزة قبل عام 2010م.
إن استحضار عِظَم الأثر الذي رسمه المقاومون لفاعلية الصواريخ منذ الانسحاب من غزة في سبتمبر 2005م، يمكن تلمُّسه كذلك من ردة الفعل التي نشاهدها على شاشات التلفزة والفضائيات من مجازر وفظائع "إسرائيلية".
إن صاروخ عسقلان الأخير الذي سقط قبل مجازر غزة لا بد أنه شكَّل إنذارًا ساخنًا للدوائر الأمنية التي تصف المدينة بـ"الإستراتيجية"؛ لاحتوائها على أكبر محطة توليد طاقة تابعة لشركة الكهرباء، ومحطة "كتسا" التي يُخزَّن فيها الوقود والغاز.
"الآن يستصرخ الجميع لتحصين سديروت، وربما يكون هذا جيدًا، لكنه ليس حلاًّ.. بعد أن ينفقوا مئات الملايين على تحصين سديروت سيضحك أفراد حماس الذين امتصوا نخاعنا ومالنا وينتقلون إلى قصف بلدات ومدن أخرى في مدى الصواريخ في النقب.. ماذا سنفعل؟.. هل سنحصنها أيضًا إلى أن نصل إلى الإفلاس؟!" هذا ما قاله "إيتان هابر" رئيس ديوان إسحاق رابين سابقًا في مقالةٍ نشرتها صحيفة "هآرتس" تحت عنوان "الحقيقة.. لا يوجد حل".
منقول لرفع المعنويات