ديسمبر 1491م
الصقيع يملأ المكان ونسمات الهواء الباردة تلفح وجه شاب في العقد الثالث من عمره، لم تكن تلك النسمات لتبرد أو حتى تخفف من حرارة جوف هذا الشاب الوسيم الذي كان قبل هذا التاريخ بليلة واحدة يعيش مترفآ في أفخم القصور اللتي عرفها البشر، نظر ذلك الشاب الى قصره المترف، الى تلك الحدائق الغناء ، الى ذلك النهر العذب الذي يمر بمحاذاة قصره، فلم يتمالك نفسة وأنتحب بكاءآ أسمع كل من حوله.
في خضم تلك المشاعر أتت أم هذا الشاب لا لتهوّن أوتخفف على فلذة كبدها مايعانيه من مرارة، بل لتقول له جملة خلدها التاريخ وكتبت بكل اللغات. قالت له " ابك يابني كالنساء على حكم لم تحفظه كالرجال".
عندما غادر أبو عبدالله محمد بن علي أخر ملوك الأندلس غرناطة ترك خلفه مئات الآف من المسلمين العرب هناك قدر عددهم بنصف مليون شخص في غرناطة وماحولها فقط !!. هؤلاء المسلمون كانوا عربآ في كل شئ في كلامهم وملبسهم ومطعمهم ومشربهم، كل شئ كل شئ.
أحس فرنانديز وإيزابلا وهما ملك وملكة أسبانيا بالخوف والتوجس من هؤلاء الأغراب عنهم فقاموا بإصدار قانون ينص على تخيير العرب المسلمين هناك بخيارين لا ثالث لهما إما إعتناق المسيحية أو الطرد !!
التنصير أو الإبعاد!! هكذا هو القانون، إما أن يتركوا دينهم ومعتقداتهم اللتي نشأوا عليها أو أن يطردوا الى مجاهيل بلاد لا يعرفونها فهم لا يعرفون سوى هذه البلاد اللتي ولد فيها أباؤهم وأجداد أجداد أجدادهم.
كان خيارآ أسهل ما يقال عنه أنه صعب جدآ.
"إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" – صدق الله العظيم – قرأ المسلمين هذه الآية وكأنهم لأول مرة يسمعونها وكأن الوحي للتو ينزل بها فكانت لهم الملاذ والحجة والراحة النفسية لكي يقدموا على الخيار الأول من غير تردد.
هذا الخيار الذي إرتأه المسلمون لم يزل شك ملوك أسبانيا فيهم، ذلك الشك الذي كان يصل الى حد اليقين بأنهم –أي المتنصرين الجدد – ماهم إلا مسلمين باطنآ وعليه فقد تم إطلاق لقب "مورسكيين" عليهم ومعناه المسلمين القادمين من المغرب العربي والساكنين في أسبانيا.
أدى تفاقم هذا الشك بالموريسكيين الى إطلاق قوانين جديدة يعتبرها الباحثون الأسبان اليوم إنها عار على التاريخ الأسباني، فقد أصدر الملك فيليب الثاني في عام 1571م مجموعة من القوانين الجديدة تهدف الى محو أي أثر عربي من جهة ومن جهة أخرى تمتحن ولاء الموريسكيين إتجاه الكنيسة الكاثوليكية !!
كان المرسوم الملكي ينص على منع التحدث باللغة العربية في الأماكن العامة كالأسواق وغيرها، منع لبس الزي العربي، جميع عقود الأراضي اللتي كتبت باللغة العربية تعتبر لاغية، لا زواج إلا في الكنيسة، يجب تعميد أطفال الموريسكيين في الكنيسة، يجب إبقاء أبواب المنازل مفتوحة للتفتيش والتأكد أن الشعائر الدينية لاتقام داخل هذه البيوت، يجب تناول وجبة الإفطار والغداء في نهار رمضان وفي مكان عام.
لم يقف الموريسكيون مكتوفي الأيدي أمام كل هذه القوانين المجحفة فاندلعت العديد من الثورات في قرطبة وماحولها في تحد صريح لسلطة الكنيسة الكاثوليكية ولكن كانت جميع هذه الثورات تقمع بالحديد والنار ويعاقب فاعليها بالحرق أحياء!!.
لعل من أبرز مايميز هذه الحقبة هو مدى قوة وإصرار الموريسكيين على الحفاظ على هويتهم العربية، فقد قاموا بإختراع لغة خاصة بهم - "اللغة الألخميادو" - تكتب بالأحرف الاتينية ولكن تنطق بالعربية وذلك للإبقاء على الحد الأدنى من الثقافة العربية.
إن لإبتكار هذة اللغة دلالة أخرى يعبر عنها الباحث والكاتب علي أومليل بقوله " إن الموريسكي وهو يضطر للكتابة بلغة الأجنبي فليكتبها إذن على طريقته. وكأنه لايريد أن يقرأها إلا من يعرف الحرف العربي".
إن هذا الصمود العجيب للموريسكيين كان له ثمنه فما هو الثمن الذي دفعوه مقابل هذا التحدي؟