وَلِيَ قضاءَ مصر بعد ابن عين الدولة الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام. وكان قد قدم من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صَيْدا وقلعة الشقيف، فأنكر الشيخ عز الدين ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب السلطان منه، فخرج إلى الديار المصرية. فأرسل السلطان وراءه وهو في الطريق قاصدًا يتلطّف به في العودة إلى دمشق. فاجتمع الرسول به ولاينه وقال له: ما نريد منك شيئا إلا أن تقبّل يد السلطان لا غير. فقال الشيخ له: يا مسكين، أنا ما أرضاه يقبّل يدي فضلا عن أن أقبِّل يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم! فلما وصل إلى مصر، تلقاه سلطانها الصالح أيوب وأكرمه، وولاّه قضاء مصر فلما تولاه تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرّقّ مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين. فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعًا ولا شراء ولا نكاحًا. وتعطلت مصالحهم لذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستثار غضبا. فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا لبيعكم، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين. فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع عن رأيه، وأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفد ذلك. فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنّه بسيفي هذا! وركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده. فطرق الباب. فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله! ثم خرج. فحين وقع بصره على النائب سقط السيف من يد النائب وأرعدت مفاصله. ثم إذا به يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي ايش تعمل؟ فقال القاضي: أنادي عليكم فأبيعكم. قال النائب: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. وتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا وباعهم بالثمن الوافي، وصرفه في وجوه الخير!
من كتاب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي.