لما صنّف ابن الهيثم كتابه الذي بيّن فيه حيلَة إجراء نيل مصر عند نُقصانه في المزارع، قصد القاهرة حاملاً كتابه، فنزل في خان. فلما ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر الملقب بالحاكم بأمر اللّه على الباب يطلبك. فخرج ابن الهيثم ومعه كتابه، وكان ابن الهيثم قصير القامة، فصعد على دكـّة عند باب الخان ودفع الكتاب إلى الحاكم، والحاكم راكب حمارًا مصريـًا. فلما نظر في الكتاب قال له: أخطأت! إن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع! ومضى! ورحل ابن الهيثم إلى الشام، وأقام عند أمير من أمرائها. وإذ أجرى ذلك الأمير عليه أموالاً كثيرة، قال له ابن الهيثم: يكفيني قوتُ يومي. فما زاد على قوت يومي إنْ أمسكتُه كنتُ خازنَك، وإن أنفقتُه كنت وكيلـَك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟! وقد قصده أمير من أمراء سـِمنان يطلب عنده العلم. فقال له ابن الهيثم: أَطلبُ منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر. فقبـِل الأمير، وأقام عنده ثلاث سنين. فلما عزم الأمير على الانصراف قال ابن الهيثم: خـُذْ أموالك بأسرها فلا حاجة لي فيها. وإنما قد جـَرَّبْتـُك بهذه الأجرة، فلما رأيتك قابلاً لبذل الأموال الجمّة في طلب العلم، بذلتُ مجهودي في تعليمك وإرشادك.
من كتاب "تاريخ حكماء الإسلام" لظهير الدين البيهقي.