كان محمد بن القاسم الأنباري من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظا له. وكان يُمْلِي مصنفاته في ناحية من المسجد و أبوه يُمْلي في ناحية أخرى. وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر. فإن أَمْلَى أملى من حفظه لا
من كتاب، وكذا كانت عادته في كل ما يُكتب عنه من العلم. مرض مرّة فانزعج عليه أبوه انزعاجا شديدا. فلما قيل له في ذلك قال: وكيف لا أجزع لمرض من يحفظ جميع ما ترون ـ وأشار لهم إلى حجرة مملوءة كتبًا! ورأى يوما في النخاسين جارية تُعرض حسنة كاملة الوصف. فوقعتْ في قلبه. ومضى إلى دار أمير المؤمنين الراضي فقال له: أين كنتَ إلى الساعة؟ فعرّفه. فأمر الخليفة أحد غلمانه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزل ابن الأنباري. واشتغل قلب ابن الأنباري بالجارية، فقال للخادم: خذها وامض بها إلى النخّاس، فليس لها أن تشغل قلبي عن علمي. فأخذها الغلام، فقالت له: دعني أكلمه بحرفين. ودخلت على ابن الأنباري فقالت: أنت رجل لك عقل، وإذا أخرجتني إلى النخّاس ولم تبيّن لي ذنبي لم آمن أن يظنّ الناسُ بي ظنًا قبيحا. فعرِّفني ذنبي قبل أن تخرجني. فقال لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي. فقالت: هذا أسهل عندي. وبلغ أمير المؤمنين الخبر، فقال: لا أظن العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. وكان ابن القسم الأنباري رحمة الله عليه مع علمه وحفظه متواضعًا. حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلسين يوم جمعة، وجعل يُملي، فصحَّفَ اسما أورده في إسناد حديث ( كان "حيان" فقال "حبان") قال الدارقطني: فأعظمتُ أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهْمٌ، وهبْتُه أن أنبِّهه إلى غلطة. فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى صاحبه وذكرت له خطأ ابن الأنباري وعرّفته صواب القول فيه، وانصرفت. ثم حضرتُ الجمعة الثانية مجلسه، فقال ابن الأنباري لصاحبه: عرِّف جماعة الحاضرين أننا صحّفنا اسم "حبان" لمّا أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشّاب على الصواب وهو"حيان"، وعرِّف ذلك الشاب أننا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال.
من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي.