عن مكرم بن بكر القاضي قال: دخلت على الوزير عليّ بن عيسى وهو مهموم جدًا. فسألته عن ذلك فقال: كتب إليّ عاملنا بالثغر أن ملك الروم أجاع أسارى المسلمين في بلده وأعراهم وطالبهم بالتنصّر وأنهم في عذاب شديد. ولا حيلة لي في هذا، والخليفة لا يساعدني. ولو ساعدني لأنفقت الأموال وجهّزت الجيوش إلى القسطنطينية. قلت: هذا أمر سهل. قال: فقل. قلت: إن بأنطاكية عظيمًا للنصارى يقال له البطرك، وبالقدس آخر يقال له الجاثليق. وأمرهما ينفذ على الروم وعلى ملوكهم، وبلداهما في سلطاننا، والرجلان في ذمتنا. فيأمر الوزير بإحضارهما، ويتقدم إليهما بإزالة ما يحدث للأسارى، فإن لم يزُلْ لم يُطالَب بتلك الجريرة غيرهما. فكتب الوزير يستدعيهما. فلما كان بعد شهر، جاءني رسوله يستدعيني، فجئته فوجدته مسرورًا، وقال لي: جزاك الله عن نفسك ودينك وعنّي خيرًا. كان رأيك أبركَ رأي. هذا رسول عاملنا بالثغر قد ورد. ثم قال للرسول: خبِّر القاضي بما جرى. فقال العامل: أَنفَذَني العامل مع رسول البطرك والجاثليق إلى القسطنطينية، وكتبا إلى ملكها "إنك قد خرجت بما فعلت عن ملة عيسى عليه السلام، وليس لك الإضرار بالأسارى فإنه يخالف دينك وما يأمرك به المسيح فإما زلت عن هذا الفعل وإلا حرمناك ولعنّاك". فلما وصلنا إلى القسطنطينية حُجبنا أياما ثم استدعانا الملك، وقال لنا ترجمانه: "يقول لكما الملك إن الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى كذب وتشنيع، وقد أذنّا في دخولك لتشاهدهم على ضدّ ما قيل، وتسمع شكرهم لنا". فحُملتُ فرأيت الأسارى وكأن وجوههم قد خرجتْ من القبور تشهد بما كانوا فيه من الضرّ، غير أني رأيت ثيابهم جميعًا جديدة. فعلمت أني حُجبت تلك الأيام لتغيير حالهم. وقال لي الأسارى: "نحن شاكرون لملك الروم"، غير أن بعضهم أومأ إليّ "إن الذي بلغك كان صحيحا، وإنما خفف علينا لما أتيتم ها هنا. فكيف بلغكم أمرنا؟" فقلت: "الوزير عليّ بن عيسى بلغه حالكم ففعل كذا وكذا". فضجّوا بالدعاء للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول: "يا عليّ ابن عيسى، لا نسي الله لك هذا الفعل!" فلما سمع الوزير ذلك أجهش بالبكاء، وسجد شكرًا لله تعالى. فقلتُ له: أيها الوزير، أسمعكَ كثيرًا تتبّرم بالوزارة. فهل كنت تقدر على تحصيل هذا الثواب لولا الوزارة!
من كتاب "المنتظم" لابن الجوزي.