علاقة فقه اللغة بالعلوم الأخرى
العلوم الإنسانية مترابطة، وبعضها -في الأغلب- داخل في بعض، وقد لا يستغني واحد منها عن غيره، بل كل علم يستفيد من مباحث العلم الآخر ونتائجه.
والبحث اللغوي يستعين بعدد من العلوم تساعده على تحقيق أغراض، ويساعدها هو على ما هي بصدده من درس، وبحث.
ومن العلوم التي لها رابطة وعلاقة بفقه اللغة ما يلي:
1-العلوم الشرعية عموماً: كعلم الحديث، وعلم التفسير، وعلوم القرآن عموماً، وعلم القصيدة، وعلم الفقه، وغيرها من علوم الشريعة؛ فإن لها ارتباطاً وثيقاً بفقه اللغة؛ من حيث دلالة الألفاظ، ومعرفة الغريب، واصطلاحات الناس وعرفهم في الألفاظ إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال لتفصيله.
يقول الزمخشري في بيان فضل العربية، وأنه لا غناء لعلم من علوم الشريعة عنها: "وذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها، وكلامها، وعلمي التفسير وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع.
ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالرواية عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء، وغيرهم من النحويين البصريين، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبث بأهداب فَسْرهم وتأويلهم.
وبهذا اللسان مناقلتهم في العلم، ومحاورتهم وتدريسهم، ومناظرتهم، وبه تقطر في القراطيس أقلامهم، وبه تسطِّر الصكوك والسجلاتِ حكامُهم، فهم ملتبسون بالعربية أيةً سلكوا غير منفكين عنها أينما وجهوا، كلٌّ عليها حيث سيَّرو".
2-علم الطب: فهو مما يفيد من فقه اللغة من جهة تقريب الألفاظ الطبية، واختصار المصطلحات الطويلة عن طريق النحت.
كما أن علم فقه اللغة يستفيد من علم الطب والتشريح ووظائف الأعضاء من جهة كيفية إصدار الأصوات عند الناطقين، وما إلى ذلك من مباحث تعين على فهم اللغة.
3-علم النفس: فهو من العلوم التي تعين على فهم اللغة وتحليلها، وإدراك كثير من مسائلها؛ فاللغة من أنواع السلوك البشري، وهي تكشف عن نفسية المتكلم وأسراره.
ويرى علماء النفس أن كثيراً من المسائل اللغوية يمكن فهمها من خلال الظواهر النفسية؛ فالفرح، والغضب، والانفعال تعكس آثارها على اللغة.
4-التاريخ والجغرافيا: فإنهما يساعدان الباحث اللغوي كثيراً؛ فبواسطتها يمكن تفسير قضايا انتشار اللغة، وانحسارها، وحدوث اللهجات، ودخول الألفاظ الجديدة وغيرها.
وبالاستعانة بهذين العلمين يمكن تفسير ظاهرة دخول الألفاظ الأعجمية إلى اللغة العربية، قبل الإسلام، وانتشار العربية في كثير من المناطق بعد الفتوحات الإسلامية، ويمكن معرفة أسباب بقاء العربية قوية في بعض البلاد الإسلامية، وأسباب ضعفها في غيرها، ونستطيع أن ندرك بهما السر في انتشار كثير من الألفاظ غير العربية في لهجاتنا المعاصرة.
وهكذا تتضح العلاقة بين فقه اللغة وغيره من العلوم الأخرى.
اهتمام الإنسان باللغة
يرجع اهتمام الإنسان باللغة إلى عصور سحيقة؛ فقد نقل عن كثير من الأمم والشعوب عنايتُهم باللغة، واشتغالهم بقضاياها، وظواهرها.
وإذا كنا لا نعرف عن الدراسات العربية إلا الجهود التي بذلت بعد ظهور الإسلام - فإن التاريخ قد سجل لنا نبذاً تدل على اهتمامات مبكرة لغير العرب.
فقد نقل عن الهنود اهتمامهم بأصوات لغتهم، ونحوها، ومفرداتها.
وأقدم ما وصل من آثارهم يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد.
وقد كانت دراساتهم الصوتية مما بني عليه العلم الحديث.
كما أنهم ألفوا في المعاجم.
وكذلك اليونانيون؛ حيث اهتموا باللغة، وألفوا معاجم لغتهم قبل الميلاد، وارتبطت دراستهم اللغوية بالفلسفة.
وكذلك كان للمصريين القدماء، والسريانين، والصينيين اهتمام قديم بالنحو واللغة.
أما العبرانيون فلم يعنوا بها إلا بعد ظهور الإسلام.
وفي القرون الوسطى حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي كانت البحوث اللغوية في أوربا محصورة في دائرة الاهتمام باللغتين اليونانية واللاتينية.
وبعد اكتشاف اللغة السنسكريتية وحلِّ رموزها عام 1786م على يد (سير وليم جونز) الذي كان يعمل قاضياً في المحكمة العليا بالبنغال - تبين للباحثين وجود علاقة بين هذه اللغة وبين اليونانية واللاتينية؛ فوجهوا اهتمامهم إلى دراسة أوجه الشبه بين هذه اللغات على ضوء المنهج المقارن، وإلى البحث عن تقسيمات للغات العالم، ومحاولة الوصول لِلغَّة الأولى.
وقد نادى طائفة من علماء اللغة الأوربيين بإهمال البحث في الغيبيات - أي في مسألة نشأة اللغة ونحو ذلك - والاتجاه إلى دراسة اللغة في ذاتها؛ فنشأ ما سمي بـ: (علم اللغة الحديث) وتحددت مناهجه، ومباحثه.
أما العرب فلم يؤثر عنهم قبل الإسلام إلا عنايتهم بالشعر، والخطابة، وقد حفظوا لغتهم من التغيير؛ فعدُّوا الخطأ فيها عيباً يُتعيَّر به، وشهَّروا بأصحاب الفهاهة واللثغة، وأعلنوا بدائع شعرهم وخطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج، فكان عِلْمُهُمُ الحقُّ هو أدبَ لُغَتِهم، وهو علمهم العقلي الوحيد؛ فلم يعنوا بجمع اللغة، أو التأليف فيها.
وإنما بدأ اهتمامهم باللغة وعلومها بعد ظهور الإسلام، وأقدم ما روي عنهم في ذلك محاولات تفسير غريب القرآن كتلك المسائل التي دارت في فناء المسجد الحرام بين عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - ونافع ابن الأزرق كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه.
وكذلك ما كان من أولى محاولات وضع التي تنسب لأبي الأسود الدؤلي كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست.