ليست دعوة مرحلية من دعوات التغريب في مجال الأدب ، ومن حيث تدخل في إطار السريالية والوجودية أو مذاهب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية ، وإنما هي شيء أكبر من ذلك : إنها ثورة على الثوابت الإسلامية الأساسية عن طريقٍ خافت الضوء هو (الشعر) حتى لا تحدث ضجيجاً أو صياحاً يفسد عليها هدفها الذي تسير فيه حتى تصــــل إلى غايتها الخطيرة . وهي تقصد أساساً إلى محاربة القيم الإسلامية وإزاحة فكرة الأصول الثابتة ، بهدف تغليب طوابع التطور المطلق ، والتغيير المتوالى الذى لا يعترف أساســـــاً بالضوابط والحدود .
ويرمي إلى فتح الطريق أمام حرية الإباحية ، وتمجيد العلاقة الجنسية ، والجرأة على أعلى القيم التي جاءت بها الأديان ، وذلك بتحطيم هذه الضوابط والحدود .
فهي عند فحص كتابات الداعين لها ، وتعمق كتاباتهم ( وخاصة مانشر من أبحـــــاث مؤتمرهم الذي جمعت أبحاثه لتكشف عن أبعاد هذا المخطط الخطير ) يتبين أن وراء هــذه الدعوة خطة رسمت بدقة وذكاء ومكر في نفس الوقت ، قام عليها الحاقدون على كل شيء طيب كريم في دنيا الإسلام والعرب ، وقد تعاقدت مطامحهم إلى توجيه ضــــربة للصـــحـوة الإسلامية عن غير الطريق الذي يتوقع منه الضربات ، بل عن طريق مدخل ضيق قــــــد لا يلتفت إليه الكثيرون وهو (الشعر)
وقد جاءت حركة الشعر الحر - شعر التفعيلة - وغيرها منذ ظهورها مقدمة ومدخلاً لهذا العمل الخطير ، قام على رأس هذه المؤامرة شاب علوي ، خدعه النصراني ( أنطون سعادة ) زعيم الحزب القومي السوري ، وليحمل لواء الدعوة إلى ما أسماه ( فينــــــيقيا ) وتلقفته الجهات التي استثمرته لخطة عمل بعيدة المدى ( علي أحمد سعيد - أدونيــــس ) وقد أتاحت له تلك الجهات أن يحصل على الدكتوراه في الأدب العربي من معهد الدراســات الشرقية في الجامعة اليسوعية في بيروت ، برسالة عنوانها ( الثابت والمتحول : دراســـة في الاتباع والإبداع عند العرب ) حاول فيها أن يهدم صرح العربية الشامخ ، ويثـــــــبت أن أصحابه غير مبتكرين أو مبتدعين ، ويبرهن على أنهم لم يقدموا شيئاً للإنســـــــانية ، وفي وضع ( أيدلوجية ) دعوته إلى الحداثة التي خُدع بها عدد من الشباب العربي الذي عجــزت خلفياتهم عن أن تحميهم من السقوط في هذا المستنقع .
دعاة الحداثة :
دعاة الحداثة كانوا كما يقول ( الدكتور حمد عبد العظيم سعود ) من أقليات بعضها ربما كان متهماً في دينه ، وبعضها كان لا يحظى من الأغلبية بنظرة ارتياح مطلقة ، أو أن هناك غالباً شيئاً عالقاً بالنفوس .
ففي سورية كان (علي أحمد سعيد) الذي زين له أنطون سعادة أن يغير اسمه إلى أدونيس) منتمياً إلى الحزب القومي السوري ، وهو حزب أعلن عداوته للإسلام والعروبة معاً ، إذ دعا إلى فينقة سورية ، ثم تحول أدونيس بعد ذلك إلى مذهب اللا منتمي ، وأدونيس هو القائل : إن السبب فى العداء الذى يكنه العرب للإبداع - كل إبداع - هو أن الثقافة العربية بشكلها الموروث هي ثقافة ذات معنى ديني ) ويعرف الأستاذ ولسون في كتابه (اللا منتمي) هذا المصطلح بقوله :
( لا صلاح لهذا العالم المليء بالمتناقضات إلا بالثورة والغضب وعدم الانتماء إلى أية قيمة أخلاقية من القيـم الموروثة ؛ بل لا بد من مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد والكراهية ) ويقول محمد الماغوط من زملاء أدونيس "على اللا منتمي أن يحس باللا جدوى ؛ لأن هذا الوجود بلا موقف ، ولا دليل ، ولا مستقر ، ولا مرشد . فليس للا منتمي موقف إلا الإحسـاس بالســأم ، ويتمني الموت والأنانية الفردية ورفض كل المعطيات الخارجية " .
وفي لبنان كان هناك ( سعيد عقل ) الذي بايعه بعض النقاد والشعراء بإمارة الشعر ، وهو الذي خرج بعدها ليعلن أن اللغة العربية لا تفي بالتعبير عن المشاعر ، ولا بد من استبدالها باللغات (اللهجات) العامية وأن هناك مشكلة في كتابتها ، فليست كل أحرفهـــا منطوقة ، وبعض كلماتها ينقصها أحرف ، ولهذا كتب ديوانه (يارا) بلغة عربية في أحرف لا تينية وهو رجل (حراس الأرز) الذين جعلوا شعارهم قتل الغرباء (أي قتل المسلمين).
وفي مصر كان الدكتور لويس عوض ، وهو رجل كان يكرر في كل مناسبة أنه ليس قومياً ، وأنه علماني ، وقد لعب هذا الرجل دوراً خطيراً في الحياة الثقافية في مصر في الخمسينيات من هذا القرن العشرين ، حين كانت وسائل الإعلام كلها موجهة وتحت الرقابة الصارمة ، وكان هو المستشار الثقافي لجريدة الأهرام.
وقد قام لويس عوض - بروح متعصبة - دون أي شاعر عمودي يبتغي طريقــه إلى وسائل الإعلام والنشر من إذاعة أو صحافة أو أي وسيلة أخرى إلى الجماهير ، كما يقول الدكتور طاهر أحمد مكي في كتابه "الشعر العربي المعاصر - دوافعه ومداخل لقراءته " : ( وأفسح المجال واسعاً عريضاً لكل من يكتب الشعر الحر ، وإذا نشر قصيدة عمودية لشاعر عمودي مثل كامل الشناوي "مثلاً" نشرها موزعة الجمل على نحو يوحي بأنها من الشعر الحر ، وفي ظل هذه الحركة تحول شبان كثيرون لا يزالون شاردين في عالم الشعر - وكان يمكن أن يصبحوا شعراء عموديين ممتازين - إلى شعراء يكتبون كلاماً تافهاً في الشكل الجديد ، وأصبحوا كما يقول الشاعر أدونيس وهو ليس متهماً في شهادته هذه ؛ لأنه من دعاة الشعر الحر المتحمسين له "في الشعر الجديد اختلاط وفوضى وغرور تافه وشبـه أمية ، ومن الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغــــة والسيطرة عليها ، ومن لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة والمهرجين " .
كان هناك بدر شاكر السياب ، وعبد الوهاب البياتي ، وهما من أخلص دعاة الماركسية نشر السياب قصائده وكلها صيحات إنكار وحيره بل وثورة على الله (جل في علاه) .
هذا أمر ، أما الأمر الآخر الذي يهدف إليه هذا التيار فقد كان واضحاً في تلك الرغبة المحمومة في إظهار الأحتقار للتراث الإسلامي العربي والزراية على الشعراء العرب القدامى المجددين ، ونعتهم بالصنعة والتكسب ، وإعلاء التراث اليوناني والروماني على ما فيه من وثنية .
ويسخر أدونيس من حادثة الإسراء في قصيدة (السماء الثامنة) .
ومعين بسيسو الماركسي يهزأ بالتراث وأعلام التاريخ ، ومن طريقة الإسناد في الحديث النبوي الشريف ويؤلف مقطوعة ساخرة (حدثني وراق الكوفة / عن خمار البصرة / عن قاضٍ في بغداد عن سايس خيل السلطان / عن جاريةٍ / عن أحد الخصيان) إلخ .. والحق أن الشعر الحر مترع بالدعوة إلى الإباحية على نحو لم يشهده الشعر العربي ، إلا عند بعض الشعراء الشواذ أو المنبوذين . والعجيب أن دعاة هذا اللون العجيب قد قفزوا في كثير من البلاد العربية إلى حيث التحكم في وسائل الإعلام ، حتى إنك تكاد تراهم يسيطرون سيطرة كاملة على هذه الوسائل في بعض بلدان العرب ، وفي هذا الجو الإرهابي أصبحت ترى شعراء عموديين يكتبون قصائدهم ، أو يعيدون كتابتها بعد تسطيرها وتبييضها وتقطيعها - إرضاء لهم وتقية - وقد ترجم كثير من تلك القصائد ؛ ليس لجودتها وإنما أولاً لسهولة ترجمتها لمستشرق شاذ ، أو لدوافع سياسية وعلل دينية .
ونحن نرجح أنها حركة مقصودة أريد بها طعن اللغة العربية ؛ لغة القرآن والإسلام وعمادها ؛ توطئة للإجهاز عليها . وستبقى العربية والشعر العمودي ، وسيبقى من فوقها القرآن والإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولن يصمد هذا المسمى بالشعر الحر طويلاً لأنه لا يعلق بالذاكرة ، أو يفرط في الرمزية المطرقة الجامحة والغموض والتلفيق ).
وإذا ذهبنا نستعرض الدعاة إلى الحداثة نجدهم جميعاً من متعصبي الأديان الذين دأبوا على محاربة الإسلام واللغة العربية ، واتخذوا شعار الحداثة ستاراً ينفثون من تحته سمومهم ، ويظهر ذلك واضحاً في كتاب غالي شكري ( شعرنا الحديث إلى أين ؟ ) ومنهم أدونيس .
والماركسيون أكبر أعداء الإسلام : بدر شاكر السياب والبياتي ودنقل ، وشعراء المجون ، وكان القس (يوسف الخال) قد رسم الخطة لهؤلاء وساقهم إليها وهو مبشر نصراني يقول: (خاسر من يبيع ثلاثة ويشري واحداً) . يقصد بالثلاثة عقيدة التثليث النصرانية والواحد هو عقيدة الإسلام.
ومنهم أمير إسكندر (نصراني ماركسي) وجبرا إبراهيم ، وأسعد رزق ، ولويس عوض ، وخليل حاوي وتوفيق الصايغ ، وشوقي ابن سقا ، وميشال طراد ، وميشال سليمان ، وسعيد عقل ، وموريس عواد ، وكلهم نصارى ، ويقول الدكتور طاهر التونسي بعد هذا العرض : إنه حتى عندما انتسب إلى مدرستهم بعض من تسمى بالإسلام استعمل التعبيرات النصرانية ، ويبدو ذلك واضحاً في شعر بدر السياب الذي يدعي أن المسيح صلب وقد كذب وكذب أساتذته النصارى واليهود فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، ويذكر عن آدم وحواء القصة كلها كما روتها التوراة لا كما رواها القرآن .
وقد أشار لويس عوض إلى أن صلاح عبد الصبور يقرأ الإنجيل بحماسة ، وأنه دخل دائرة الخلاص المسيحية . ونجد التركيز على التراث النصراني والمصطلحات النصرانية في شعره ، وله قصيدة ( حكاية قديمة ) عن المسيح وصلبه ، ونظم بعض أبيات من ( نشيد الإنشاد ) ونجد ذلك في معين بسيسو ونزار قباني :
(مصلوبة الشفتين ، الصليب الذهبي) وعبد الوهاب البياتي ( في صليب الألم ) وأمل دنقل: (العهد الآتي).
أيدلوجية الحداثة:
أجمع الباحثون على أن ( الحداثة العربية ) هي ثورة متمردة على كل نظام وقاعدة وقانون ، وأنها ترمي إلى هدم الضوابط والحدود والقيم والقواعد التي قدمها المنهج الرباني إفساحاً للمنهج البشري : القائم على التحول الدائم ، ويرى بعضهم أنها ثورة اجتماعية هدامة ، تتخفى وراء نصوص الشعر والأدب لتحجب غايتها وحركتها ، ولذلك فإن دعاة الحداثة يهاجمون الثوابت التي قدمها الدين الحق في عنف شديد ، ويصفونها بالجمود والمحافظة والتحكمات . وقد وصفها الأستاذ محمد عبد الله مليباري بأنها باطنية جديدة تحاول غزو مبادئنا وقيمنا ؛ بدءاً من الشعر وانتهاء بالعقيدة الإسلامية ، وأن المسألة ليست أن يكون الشعر عمودياً أو غير عمودي ، أو تفعيلياً أو نثرياً ، ولكنها أكبر من ذلك ، إنها محاولة هدم في:
1- قضايا العصر : السياسية والإجتماعية والاقتصادية ، وما يتصل بها من تحرير وحرية وعدالة.
2- وقضايا العصر التعليمية والعلمية والفنية ، وما يترتب عليها من مشكلات .
3- وقضايا العصر الأدبية والفنية ، وما تستحدثه من أجناس ومدارس واتجاهات .
ويمكن القول إن هذه المؤامرة قد وضعت قواعدها على أساس حركة الزندقة القديمة ، وجماعة المجّان الذين كان على قيادتهم ( الشاعر أبو نواس ) الذي كان حاقداً علــــى الإسلام ، والذي جندته قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة ليهدم عن طريق الشعر جميع مقومات الثبات الإسلامي في البيئة العباسية ، وقد أعانه على ذلك مجموعة من الزنادقة والشعوبيين الذين تركوا تراثاً مسموماً استطاع المستشرقون إحياءه عن طريق شعوبي جديد يحمل في أعماقه جميع أحقاد المجوسية والباطنية .
وقد وضع أدونيس نظرية الحداثة على جملة أصول:
1- نظرية التطوير المطلق التي نقلها من فكر هيجل في دعوته إلى إلغاء الثوابت ، وهي نقيض نظرية أرسطو . وقد اصطنعتها القوى الصهيونية والماسونية لإحياء الفكر التلمودي وخلق نظرية تقول بأنه ليس هناك شيء ثابت أصلاً ، وأن كل شيء متطور ، وذلك لهدم ثبات الأديان والأخلاق والقيم . ويرون أن الإنسان هو محور العالم.
2- إحياء الوثنيات القديمة ، فقد كشفت رسالة أدونيس عن تقديره الوافر لفكر أبي نواس واهتمامه بفكر الملاحدة وأصحاب نظرية وحدة الوجود والحلول والاتحاد وإعادة إحيائها من جديد وهي الخطة التي وضع قواعدها المستشرق لويس ماسنيون .
3- تحطيم عمود اللغة العربية ، وهدف تحطيم الفصحى لغة القرآن هدف قديم وقد شارك فيه منذ بدأت حركة التعريب والغزو الثقافي ( ويلكوكس - لطفي السيد - سلامة موسى ، سعيد عقل - إلخ ) أملاً من هؤلاء الدعاة بأن تحطيم اللغة العربية سيحولها إلى المتحف ويفسح الطريق أمام تفرق الوحدة القرآنية الإسلامية الجامعة .
4- تحطيم عمود الشعر وذلك إيماناً منهم بأن عمود الشعر هو القاعدة الأساسية للأدب والبيان العربي بعد القرآن والسنة ، ومن هنا جاءت الحملة على الخليل بن أحمد وعلى كل الشعراء الملتزمين للنظم العربي الأصيل .
5- مهاجمة منهج الثبات والقيم ، وإطلاق اسم السلفية عليه ، والسلفية هنا تعني المعتقد الديني ، فالحداثة ترى أن الأفكار الباطنية والصوفية تحول من الثبات الديني بل تعتبر هذا التحول منطلقاً تاريخياً للحداثة العربية .
6- تغليب مفاهيم السريالية (النظرة التي لا يحكمها العقل) أو ما يسمى فوق الواقع ، وقوامها احتقار التراكيب العقلية والروابط المنطقية المعروفة والقواعد الأخلاقية والجمالية المالوفة والاعتماد على اللا شعور واللا معقول ، والرؤى والأحلام والحالات النفسية المرضية ، ولا سيما حالات التحلل النفسي ، ويعنون بالرغبات الجامحة .
7- تغليب طوابع الجنس والإباحة استمداداً من مفهوم الإغريق وعبادة الجسد وإباحيات الوجودية التي دعا إليها سارتر ، ونظرية التحليل النفسي الذي يعتمد الجنس التي دعا إليها فرويد ، ونظرية العلوم الاجتماعية التي دعا إليها دوركايم ؛ وفتح أبواب المجون والجنس والإباحة والتحلل الاجتماعي .
8- على أن يدور ذلك كله في إطار (التاريخانية) وهي الحتمية التاريخية لماركس فالمنهج الماركسي التاريخي هو الأساس الأيدلوجي للحداثة.
وقد عمد أدونيس - في سبيل صياغة هذه النظرية التي قدمها له شيخ المنظرين القس يوسف الخال - إلى استقطاب خيوط من التاريخ لتكون أدلة واضحة وأضواء كاشفة على الطريق ، وذلك بالاعتماد أساساً على الفكر الباطني الفلسفي والاهتمام برموزه ومحاولة ربط الخطوات بتطور الشعر الحديث وبالمرحلة الأخيرة منه ( قصيدة النثر وشعر التفعيلة ) واختيار الحاقدين الجدد على نسق الحاقدين القدامى : أبي نواس ومهيار الديلمي واعتماد الحركات التمردية الهدامة للمختار الثقفي والقرامطة . وقد خطا دعاة (الحداثة) خطوة متقدمة على مفهوم العصرية من ناحية والشعر الحر من ناحية أخرى .
فالشعر الحر تقليد لشعر (والت ويتمان) أما شعر الحداثة فهو متابعة للشاعر الصليبي توماس اليوت ، ويرى دعاة الحداثة أن الشعر الحر هو التيار ( السلفي ) الجديد بالنسبة لشعر الحداثة .