ومن خطب قطري بن الفجاءة خطبته المشهورة في ذم الدنيا والتحذير عنها، وهي: أما بعد. فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور. لا تدوم نصرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرارة، ضرارة، وخاتلة، زائلة ونافذة، بائدة، أكالة، غوالة. لا تعدو إذ تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً " مع أن أمراً لم يكن منها في حبرة، لغا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطناً، إلا منحته من ضرائها ظهراً. ولم تصله غيثة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحرية إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وأي جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبا. فإن آتت امرأ من غصونها ورقاً أرهقته من نوائبها تعبا. ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف، غرارة: غرور ما فيها؛ فانية: فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه. ومن استكثر منها، استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكي عينه. كم واثق بها قد فجعته، وذي حكم ثنته إليها قد صرعته، وذي احتيال فيها قد خدعته. وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً، وذي نخوة قد ردته ذليلاً. ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم. سلطانها دول. وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام. قطافها سلع. حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم. منيعها بعرض اهتضام. وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب. وسليمها منكوب، وجارها محروب. مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " . ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعماراً، وأوضح منكم آثاراً، وأعد عديداً، وأكثف جنوداً، وأشد عتوداً. تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفساً بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب بل أرهقتهم بالقوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع. وقد رأيتم تنكرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق إلى الأبد إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا السغب؟ وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون؟ يقول الله جل ذكره " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون " بئست الدار لمن أقام فيها! فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها الأبد، فإنما هي كما وصفها الله تعالى باللعب واللهو، وقد قال تعالى: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين "
_______________________________
بالمناسبة ..قطري بن الفجاءة كان من رؤوس الخوارج ..لكن خطبته هذه لا تعبر عن أي شئ من عقيدة الخوارج ..و هي تتوافق مع العقيدة الإسلامية تماما.
_______________________________
الشرح
خضرة أي ناضرة كقول النبي (ص) : "إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها " ، وحفت بالشهوات كأن الشهوات مستديرة حولها كما يحف الهودج بالثياب أو أطافوا به . ، وتحبب بالعاجلة : أي تحبب الناس بكونها لذة عاجله ، والنفوس مغرمة مولعة بحب العاجل ، وقوله راقت بالقليل أي أعجبت اهلها ، وإنما اعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم ، وتحلت بالآمال من الحلية ، أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها ، وتزينت بالغرور أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له ، والحبرة السرور والحائلة : متغيرة ،ونافذة: فانية ، بائدة : منقضيه ، وأكّاله :قتاله ، وغواله : مهلكه .
ثم قال إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها- أن تكون كما قال الله تعالى: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾ فاختلط : أي فالتلت بنبات الأرض ، وتكاثف به ، أي بسبب ذلك الماء ونزوله عليه ، ويجوز أن يكون تقديره : فاختلط بنبات الأرض لأنه لما أنماه وغذاه فقد صار مختلطاً به ولما كان كل واحد من المختلطين مشاركاً لصاحبه في مسمى الإختلاط جاز "فاختلط به نبات الأرض" والهشيم : ما تهشم وتحطم وتذروه الرياح تطيره ، وقوله ولم يلق من سرَّائها بطن إلا منحته من ضرائها إنما خص السراء بالبطن والضّراء بالظهر لأن الملاقي لك بالبطن ملاقي لك بالوجه ، فهو مقبل عليك ، والمعطيك ظهره مدبر عنك ، وطلله السحاب ، إذا أمطر عليه مطرا قليل ، وقوله حريّ أي جدير وخليق ، واعذوذب صار عذبا ، واحلولى صار حلواً ومن هنا أخذ الشاعر قوله :
ألا إنـمـا غـضــارة أيـكــةإذا خضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبـرةعلى ذاهب منها فإنـك ذاهـب
وقوله وأمَرّ الشيء أي صار مراً ، والرغب مصدر رغبت ، أي أردت ، وقوله : أرهقته من نوائبها تعبا :يقال :أرهقه إثما ، حمّله وكلّفه ، وسبب اختصاص الامن بالجناح والخوف بالقوادم ، لأن القوادم مقاديم الريش ، والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط قريب ، والجناح يستر ويقي البرد والأذى ، قال أبو نواس :
تغطيـت بـدهـري بـظـل جنـاحـهفصـرت أرى دهـري وليـس يرانـي
ولو تسأل الأيام ما إسمي لما دَرَتوأين مكانـي مـا عرفـن مكانـي
وقوله توبقه : تهلكه ، والأبهه الكبر والرنق بفتح النون أي تكدر ، أجاجا : ماء أجاج قد جمع المرارة والملوحه ، والصبر : هذا النبات المرّ نفسه ، ثم سمي كل مر صبراً ، والسمام جمع سم لهذا القاتل ، والجمع سمام وسموم ، ورمام باليه ، اسبالها : احبالها ، موفورها : ذو الوفرة والثروة منها ، والمحروب المسلوب .
ثم أخذ قوله تعالى " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال " فقال : الستم في مساكن من كان أطول منكم اعماراً وتم نصب أطول لانه خبر كان ، وقد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول أعمارا بقوله " فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماً " وثبت بالعيان أنهم أبقى آثاراً فإن من آثارهم الأهرام والإيوان ومنارة الإسكندرية ، و الفوادح : المثقلات ، فدحه الدين أثقله ، وضعضعت البناء : أي اهدمته ، كقول الشاعر ابراهيم العاملي :
وبسيفه الإسلام قام فركنـه حتى القيام بناه لا يتضعضع
وقوله وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها أي أطاعها ودان لها أيضا : ذل ، وأخلد لها : مال ، قال تعالى "ولكنه أخلد إلى الأرض " ، و السغب : الجوع ، ومعنى قوله :او نورت لهم الظلمه أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمه ، والضنك : الضيق . ثم قال : فبئست الدار وحذف الضمير العائد اليها وتقديره "هي " كما قال تعالى " نعم العبد"، وتقديره هو .، ومن لم يتهمها أي لم يسؤ ظناً بها ، والأكنان جمع كن وهو الستر ، قال تعالى :"وجعل لكم من الجبال أكنانا " والرفات العظام البالية والمندبة : الندب على الميت وقحطوا أي اصابهم القحط .
المصادر :
العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي.
البيان والتبيين للجاحظ.
شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي.