بعد جهاد وجلاد شاقين، في الداخل والخارج، استمرا ستة قرون متوالية كانت خاتمة المطاف الحرب العالمية الأولى، التي دامت اربع سنوات ونيف، امتدت من سنة 1914 إلى سنة 1918، وثبت فيها العثمانيون، أمام أعدائهم، ثبوت الجبال ودافعوا عن دينهم ووطنهم وكرامتهم دفاع الأبطال. انتهت تلك الحرب بمأساة مفجعة اذ استيقظ المسلمون كلهم على كابوس مزعج انطوى على أعظم فاجعة أصيبوا بها وأكبر مصيبة نزلت بهم، منذ ظهور الإسلام والى تلك الساعة، فقصمت ظهورهم وكبلتهم بحبلي الخيبة والخسران، إذ رأوا بنيان دولة الخلافة ينهار كما تنهار بيوت الكرتون، لا بل وقد أصبحت هذه الدولة ذات العز الباذخ والشأن الرفيع الشامخ، التي كانت ملء عين الزمان وسمعه، أثراً بعد عين وكأنها لم تغن بالأمس واصبحت أرضها موطناً لاعدائها أو موطئاً لاقدامهم.
لقد كانت الصفعة قاسية جداً وأليمة جداً لأنها لم تكن مرتقبة ولا محسوبة فنحن كنا نعلم أننا في حرب مع أعداء أقوياء، وكنا نقدر الربح والخسارة ونحسب حسابهما ولكننا لم نكن نقدر الخسارة وحدها لا سيما بعد أن رأينا الدولة تقف في وجه الأعداء أربع سنوات وتكاد لا تتزحزح عن أماكنها في جميع الجبهات ثم نراها تنهار وتخر، في بضعة شهور، وكأن عاصفة اقتلعتها من جذورها أو فيضاناً طفا عليها فجرفها. إننا نحن الذين شهدوا تلك المأساة ندرك أبعادها إدراكاً تاماً ونشعر بالآمها ولا نستطيع التعبير عنها باللسان ولا بالقلم لأنها أكبر وأعظم من أن توصف.
كان من البديهي بعد أن اندحرت الدولة في ميادين الحرب أن تستقيل الوزارة العثمانية القائمة، وزارة الاتحاد والترقي، التي كان يرأسها طلعت باشا وتألفت وزارة جديدة برئاسة أحمد عزة باشا الأرناؤوط وأرسلت هذه الوزارة وفداً وزارياً الى مدينة مودروس في جزيرة ليمنوس، الكائنة في بحر يجه، بين البرّين التركي واليوناني، لمفاوضة الانكليز على شروط الهدنة، وهي لم تكن هدنة بالمعنى الصحيح بل كانت إملاءً واستسلاماً. وكان هذا الوفد برئاسة وزير البحرية، رؤوف بك بطل الدارعة الحميدية المشهور.
وبعدما اندحرت الدولة في الحرب رأى حكامها، زعماء حزب الاتحاد والترقي، أنهم خسروا المعركة نهائياً وأنه لا سبيل للمكابرة بل لا بد لهم من أن ينهجوا نهجاً جديداً وان الخطوة الأولى هي أن يتواروا عن الأنظار، فعقدوا اجتماعاً قرر فيه ثمانية منهم مغادرة البلاد على اعتبار أنهم هم المسئولون الأوائل عن الحرب وعما أصاب الدولة من انهيار وانهم إذا سلموا من أيدي أعدائهم فقد لا يسلمون من أيدي أبناء البلاد أنفسهم لأن الناس في مثل هذه الحالات يحكمون بالعواطف وتسيطر عليهم الغوغائية. وهؤلاء الثمانية هم : طلعة باشا رئيس الوزارة، انور باشا وزير الحربية، احمد جمال باشا وزير البحرية وقائد الحملة العثمانية على الجبهة المصرية والحاكم بأمره في سوريا الكبرى الممتدة من جبال طوروس الى قناة السويس، عزمي بك والي بيروت، بدري بك مدير شرطة استانبول، الدكتور ناظم بك والدكتور بهاء الدين بك من كبار رجالات الحزب ومدحت باشا أمين سر حزب الاتحاد والترقي. غير أن هذا الأخير وافق على مغادرة البلاد مسايرة لصديقه طلعة باشا ولكنه لم يكن، في قرارة نفسه، راغباً بهذه الهجرة.
فلما رأى طلعة باشا أن مدحت بك لا يرغب بالهجرة إلا مسايرة له قال له : إذا كنت لا ترغب بمغادرة البلاد فابق حيث أنت وأنا راض عنك فبقي وركب السبعة المذكورون، في أوائل نوفمبر 1918، سفينة حربية المانية حملتهم الى جزيرة القرم التي كانت تحت السيطرة الالمانية، آنذاك، وهناك استقبلتهم السلطات الألمانية بالترحاب ووضعت تحت تصرفهم قطاراً يحملهم الى برلين التي اختاروها داراً لهجرتهم.
وكان هؤلاء الفارون، منذ أن غادروا استانبول، يتحدثون فيما بينهم بما يجب عليهم فعله، فكان طلعة باشا يرى أن حياتهم السياسة قد انتهت وأن المنطق يقضي عليهم بأن يعتزلوا السياسة ويعيشوا في عالم المجهول فقد عملوا ما فيه الكفاية واخطأوا من حيث أرادوا الخير والصواب، وكان من رفاقه، ولا سيما المدنيين، من يرون رأيه وأما العسكريون وخاصة أنور باشا الذي كان مملؤاً شباباً وحماسة فإنه كان يرى غير ذلك ويفضل أن يغتنم ما بين روسيا والدول الغربية من عداء وأن يستثمر هذا العداء ويستمر في القتال حتى تستطيع الدولة العثمانية أن تحتفظ بأكبر جزء ممكن من البلاد وأن تعقد صلحاً مشرفاً مع الأعداء.
ولما لم ير استعداداً من رفاقه للسير في خطته فر خلسة من القطار، وهم في طريقهم الى برلين، وذهب الى القفقاس حيث كان أخوه نوري بك يقاتل الروس، وكان يأمل إثارة مسلمي داغستان واذربيجان وأن يقيم إمارة اسلامية في تلك الربوع. وبعد أن درس الوضع هناك إلى موسكو فاستقبله الروس استقبالاً حسناً وانزلوه قصراً فخماً واتفق معهم على محاربة الانكليز وحلفائهم ثم لحق به كل من أحمد جمال باش وبدري بك ولكنهما عادا إلى برلين. وجاء هو مرتين إلى برلين ليقنع رفاقه بالتعاون مع الروس ولكنهم أبوا ونصحوه باجتناب الشيوعيين لأنهم خداعون غدارون ولكنه لم يسمع لهم، ولعله كان يعلم علمهم ولكنه لم يكن يرى غير هذا الطريق يسلكه.
أدرك أنور باشا بعد أن اختلط بالروس أنهم يخدعونه وأن الهوة بينه وبينهم عميقة جداً، فهو يريد أن يعيد إلى تركيا شأنها وإسلامها وهم يريدون أن يقضوا على هذه الدولة التي أزعجتهم كثيراً أو أن يبعدوها عن الإسلام على أقل تقدير وأنهم باستضافته والمفاوضة معه إنما ارادوا حجره في روسيا لكي لا يزعج خطط مصطفى كمال الذي كان على اتفاق معهم واشترط عليهم الاّ يمدوا أنور باشا بالسلاح. وكان الروس يدركون من ماضي الرجلين أن مصلحتهم مع مصطفى كمال وليست أنور باشا لا سيما وأن الانكليز أيضاً كانوا يؤيدون مصطفى كمال.
بعد أن استيقن أنور باشا أن صداقة الروس كانت خداعاً وملقاً وأنه وقع في شركهم، رأى من العار أن يعود خاسئاً ويستجدي الحياة استجداء وصمم على أن يستمر في خطته حتى ينال احدى الحسنيين فإما النصر وإما لقاء الله. فكتب رسالة إلى جمال عزمي بك وإلى طرابزون السابق وهو غير عزمي بك والي بيروت، يوصيه بزوجته ودخل بخارى يسانده الحزب الاميري فيها وبطش بدعاة الشيوعية وأعوانها ولا سيما بحزب (مجددي) الشيوعي وحارب الروس وانتصر عليهم في معارك كثيرة تناقلت الأنباء العالمية أخبارها. فلما رأى الروس ذلك ورأوا أن الحماسة قد اشتدت ضدهم وأن العاقبة قد تكون وخيمة عليهم إذا تهاونوا بالأمر، جمعوا جيوشاً كبيرة لمقاومة هذه الثورة الجائحة التي لو كتب لها النجاح لكانت قضت على الامبراطورية الروسية وأرجعتها إلى حجمها الحقيقي وهو إمارة موسكو. وحدث، في 4 أوغست 1922 أنه بينما كان أنور باشا في قرية بالجوال شرقي بخارى وقد تفرق عنه الجند بسبب عيد الأضحى، أن هاجمه الروس بأعداد كبيرة فخرج إليهم بنفسه وظل يقاتلهم حتى قتل.
لقد مات أنور باشا ميتة شريفة تليق برجل مثله ولم يشأ أن يعيش عالة على أحد على الرغم من أن ملك الأفغان، امان الله خان، دعاه مرات كثيرة مع الرجاء والالحاح بأن يأتي إليه لينظم له جيشه ووعده بأن يجد عنده كل ترحيب وتكريم ولكنه اعتذر عن القبول وفضل هذه النتيجة الشريفة على حياة الاستجداء.
أما أحمد جمال باشا فقد استجاب لدعوة أمان الله خان وذهب إلى افغانستان وأخذ يعمل في تنظيم جيشها وجاء إلى موسكو فاحتجزه الروس بشكل لطيف لأنهم لم يكونوا يريدون لأفغانستان نهضة ووعياً، ولكنه استطاع أن ينجو منهم بلباقة إذ أنه ابدى استعداده للذهاب إلى تركيا لاستمالة الناس إلى جانبهم فسمحوا له بالذهاب عن طريق القفقاس، ولما كان في تفليس تصدى له شخص من الأرمن فقتله ويقال بأن الروس هم الذين دبروا اغتياله لكي يتخلصوا منه إذ أنهم لم ينخدعوا بوعده. وقتل الأرمن طلعة باشا في برلين كما قتلوا غيره من رجالات حزب الاتحاد والترقي المسئولين عما أصاب الأرمن، زمن الحرب، من قتل وتشريد.
كانت هذه صفحة من صفحات العهد العثماني ولكنها لم تكن آخرها ولا كانت أقواها صدمة على نفوس المسلمين لأن الناس كانوا قد نسوا رجال العهد العثماني وعلقوا آمالهم بالحركة الكمالية التي كانوا يعتقدون أنها ستعيد إليهم الشيء الكبير من آمالهم. فماذا كان ؟