كان رحمه الله لايبتسم ، وروى أبو شامة قائلاً: أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج" ...ا.ه.كلام أبي شامة
و عن زهده
يقول سبط ابن الجوزي: "كان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" .
يقول الحافظ ابن عساكر في كتابه الضخم تاريخ دمشق : "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات ، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل .
رأى نور الدين محمود في منامه النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، الاشقرين. فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا جثمان النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقها عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم.
استدعى نورالدين محمود أمهر المهندسين في عصره و كلفهما ببناء منبر للمسجد الأقصى - و كان المسجد الأقصى وقتها قد جعله الصليبيون كنيسة ملحق بها اسطبلا للخيول و زريبة للخنازير- فمات رحمه الله قبل أن يفتح بيت المقدس بنفسه فلما فتحه صلاح الدين في سنة 583 هجريا ...نادى في الناس أن احضروا منبر نور الدين الذي بناه من حلب لإاتوا به و ظل موجودا حتى حريق الأقصى سنة 1969ميلاديا على يد اليهود عليهم لعنة الله.
قال ابن الأثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين ، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه. وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها. واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال، فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئاً، ولو مات جوعا.
وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، فنحن لا نترك الجهاد.
وقال عنه أعداؤه إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا.
وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية.
وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري:"بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين". فقال له:"اسكت يا قطب الدين! فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود ؟ قال: فبكى من كان حاضراً، رحمه الله.
وحكى أبو شامة قائلاً: "وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:"أَعْلِمْ نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت :يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر؟".
قال فنزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة "الكلب"!! فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها و ألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى رحمه الله وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة".
هيئة نور الدين محمود
كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيباً متواضعاً عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع.
قال ابن الجوزي: "استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة".
كان نور الدين محباً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً, وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه.
كان السلطان نور الدين رحمه الله زاهداً متواضعاً، لا يحب علواً في الأرض ولا فساداً، تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها قائمة بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد ".. اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين و عدته، ركن الإسلام و سيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها، شمس المعالي و ملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.."، لكن نور الدين رحمه الله أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحداً يقول: "اللهم أاصلح عبدك الفقير محمود زنكي".
ذكر ابن الأثير قصة قد توضح لنا حقيقة شخصية هذا الرجل: قال أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقاً يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشياً إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي: أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم.
فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان: إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.
وهو أول من ابتنى داراً للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل: أربع مرات، وقيل: خمس. ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم.