وقول الله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين) [النحل: 120]
الآية الأولى: قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة...) الآية. قوله: (أمة)، أي: إماماً، وقد سبق أن
أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه، إمام، ودهر، وجماعة، ودين(1). وقوله: (إن إبراهيم كان أمة)، هذا ثناء من الله - سبحانه وتعالى - على إبراهيم بأنه إمام متبوع؛ لأنه أحد الرسل
الكرام من أولي العزم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر. ثم ابتلاه الله - سبحانه وتعالى - بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ معه السعي )أي: شب وترعرع(؛ فليس كبيراً قد طابت النفس منه، ولا صغيراً لم تتعلق به النفس كثيراً، فصار على منتهى تعلق النفس به. ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه: (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) [الصافات: 102]، لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن
يوافق أمر ربه، وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه سبحانه وتعالى، وأنظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في قوله: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين). فالسين في قوله: (ستجدني) تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: (إن شاء الله). وامتثلا جميعاً وأسلما، وانقاداً لله - عز وجل ـ، وتله للجبين؛ أي: على
الجبين، أي جبهته؛ لأجل أن يذبحه وهو لا يرى وجهه، فجاء الفرج من الله تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين) [الصافات: 104،105]، ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديداً، ونحو ذلك. قوله:
(قانتاً)، القنوت: دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال؛ فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال. كما أن ابنه محمداً صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه(1): إن قام ذكر الله، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر
الله؛ فهو قانت آناء الليل والنهار. قوله: (حنيفاً)، أي: مائلاً عن الشرك، مجانباً لكل ما يخالف الطاعة، فوصف بالإثبات والنفي، أي: بالوصفين الإيجابي والسلبي. قوله: (ولم يك من المشركين)، تأكيد، أي لم يكن مشركاً طول حياته؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام معصوماً
عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمراراً في قوله: (حنيفاً)، وابتداءً في قوله: (ولم يك من المشركين)، والدليل على ذلك: أن الله جعله إماماً، ولا
يجعل الله للناس إماماً من لم يحقق التوحيد أبداً. ومن تأمل حال إبراهيم عليه السلام وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفى غاية ما يكون من مراتب اليقين؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على
هذا؛ لأن النفس لا تدع شيئاً إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئاً إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت. ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان: الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، كما أن من أثنى الله
عليه شراً، فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم عليه السلام؛ لأنه كان إماماً حنيفاً قانتاً لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه؛ لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا؛ لأنهم قائمون بأمر الله، ونكره الشياطين، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره
أتباع الشياطين؛ لأنهم عاصون لله أيضاً وأعداء لله ولنا. الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) [يوسف: 111]، وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة
حسنة في إبراهيم والذين معه) [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) [الممتحنة:6]. وهذه مسألة مهمة؛ لأن الإنسان أحياناً يغيب
عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، ولكن لا ينبغي أن يغيب؛ لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان. فائدة: أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر؛ كما قال الله تعال: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة) [الأنعام: 74]، وقال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة
وعدها إياه) [التوبة: 114]؛ لأنه قال: (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً) [مريم: 47]، (فلما تبين له أنه عدو لله بترأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) [التوبة: 1114]، وفي سورة إبراهيم قال: (ربنا أغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) [إبراهيم: 41]، ولكن
فيما بعد تبرأ منه. أما نوح؛ فقال: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات) [نوح: 28]، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين. فائدة أخرى: قال
الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: المغازي، والملاحم، والتفسير؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهذا؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم، (فلما آتاهما صالحاً) [الأعراف: 190]
، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك(1). فالقاعدة إذاً: أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئاً إلا من طريق الوحي، قال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) [إبراهيم: 9].
* * *
وقال: (والذين هم بربهم لا يشركون) [المؤمنون: 59].
الآية الثانية: قوله: (والذين هم بربهم لا يشركون). هذه الآية سبقها آية، وهي قوله: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) [المؤمنون: 57]. لكن المؤلف ذكر الشاهد. وقوله تعالى: (من خشية ربهم)؛ أي: من خوفهم منه على علم، و (مشفقون)؛ أي: خائفون من
عذابه إن خالفوه. فالمعاصي بالمعنى الأعم - كما سبق ـ(2) شرك؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال الله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية: 23]. أما بالنسبة للمعنى الأخص؛ فيقسمها العلماء قسمين: 1- شرك. 2- فسوق. وقوله: (لا يشركون)،
يراد به الشرك بالمعنى الأعم؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن
إذا عصوا؛ فإنهم بتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال الله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)