عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"
قوله: "من شهد أن لا اله إلا الله" ، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق ، قال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86]، وهذا العلم قد يكون مكتسباً وقد يكون غريزياً. فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(2). وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
قوله: (لا إله)، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة. قوله: (إلا الله)، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ) [ص: 5]. أما قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعاً، وإذا انتفى شرعاً؛ فهو كالمنتفي وقوعاً؛ فلا قرار له، (ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها قرار) [إبراهيم: 26]. وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم) [هود: 101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) [ص: 5]، وبين قوله تعالى: (وما من إله إلا الله) [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعاً، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) [يوسف: 40]. * التوحيد عند المتكلمين: يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله. والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: (ما لكم من إله غيره) [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله. ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً (1)، وقال الله - عز وجل ـ: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية: 23]. فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك. وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع: 1- شرك أكبر. 2- شرك أصغر. 3- معصية كبيرة. 4- معصية صغيرة. وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق. وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية، فهي نوع من الشرك". وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: "إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!"؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: "وجدتم ذلك؟". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان"(1)؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص. قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله"، من: شرطية، وجواب الشرط: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم: (نشهد إنّك لرسول الله) [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: (والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل. وقوله: "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء. قوله: (وحده لا شريك له)، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعني الله"(2)، ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.