من فعَل هذا بعقولنا إنّه لمن الظالمين ؟ ليست والله نكتة ولاموقف مصنوع لاستعراض براعة فى الكتابة ، إنّما هى الحقيقة عايشتها يوماً بيوم وعلى مدى عامين كاملين ، فى سلسلة من الحلقات ، جرتْ تحت سمعى وبصرى – ها هى أمامكم فاسخروا ما شئتم لكنه واقعنا العربى من المحيط إلى الخليج ، تواكل على الغيب ، وانسياق وراء الشائعات ، وتعطيل للعقل ، وإعطاء التفكير إجازةً طالت ، ولا ندرى متى يعود للعمل ؟!
شرْفة واسعة فى منزلى الريفى ، أجلس فيها والأسرة عندما يأتى المساء ، عشرون متراً تفصلنى عن الطريق الرئيسى للقرية الهادئة ، مع مساحة من الأرض تناثرت فوق سطحها بضع شجرات عتيقة ، ونخْلات بلغت سن اليأس ، تخبرك عن حديقة كانت ثم زالت ، تحت ضغط العمران ، ويد البشر الآثمة صمت يلف المكان ، اللهمّ إلاّ من بوق سيارة تعود بعد يوم عمل ، أو أمّ تدعو الله أن يأخذ ابنها إلى جواره بعد أن اضطرها للخروج بحثاً عنه إذْ تأخّر فى العودة إلى المنزل العامر فجأة وعلى غير انتظار ، يقطع هذا الجمال الهادئ صوت فرامل لسيارة توقفت ، وقفز منها مجموعة من الشباب فيما يشبه عملية إنزال عسكرية للقوات الأمريكية الصديقة على شاطئ الخليج وشطّ العرب ، إنّ الشباب يحاولون جذْبَ شيءٍ ما ، بينما ترتفع فى الأفق أصوات سباب وشتائم تضمّ كل ماعرفت وما لم تعرف من مفردات قاموس البذاءة ، بدءاً بسبّ جميع الأديان ، ومروراً بأعراض الأمهات والأخوات ، وحتى غباء سائق السيارة !أحياناً تمنعك المفاجأة من اتخاذ المبادرة بالحديث والحركة أخيراً نجح الشباب فى جذب هذا الشيء خارج السيارة ، إنّه بطانية تلتف حول شيء ما ، حملوها بينهم ثم طوحوا بها فهوت إلى جوار الحائط حيث استقرت لحظات وبدأت تختلج ، وأسرع السائق يدور بسيارته فى استعراض واضح ، ثم غادر الجميع المكان على نفس النمط الأمريكى ، رغم ذلك لم ينقطع سيل السباب ، وزاد اختلاج البطانية المهترئة ، ربّاه ! إن الصوت يخرج من تلك البطانية العجيبة – صاح أحد المارّة وتوقف الرائح والغادى يرقب المشهد العجيب ، أنزلتنى الغرابة من علياء شرفتى أستجلى أبعاد الموقف ، إنه رجل مريض قعيد لايملك من علامات الحياة غير ذراعين يطوح بهما فى تهديد إلى لا شيء ، ولسان امتلك من البذاءة ما يدل على طمعه الشديد فى أنصبة الآخرين منها ، حاول أحدنا سؤال الرجل عن أبعاد الموقف ، وجاءت الإجابة سيل جديد من الشتائم للواقفين والسائرين ولمن سار على نهجهم ومشى على طريقتهم ، وسكت الجميع احتراماً للموقف الجليل 0أسرع البعض بما تبقّى من شهامة أولاد البلد وتسامح أهل الريف مع كلّ غريب ، يصنعون للضيف مأوىً بعد أن رفض الذهاب مع أحد إلى حيث المأوى والطعام ، شيئاً فشيئاً يرتفع كوخٌ صغير صنعته الأيدى الطيبة من جريد النخل وأغصان الأشجار ، وجاء البعض من أطراف القرية يسعى حاملاً بطانية أو وسادة ، لازال الرجل يسبّ ويلعن فى ثبات عجيب على المبدأ ، ثمّ انصرف الناس تاركين الضيف العجيب ينام ، وصعدت أنا إلى شرفتى ، أناجى القمر ،وأستمع إلى نقيق الضفادع كالعادة ، واليوم زاد على القصيدة صوت الزائر الجديد مع الصباح تتضح الرؤية ، إن سيارة الأمس بمن عليها جاءت من قرية مجاورة ضاق أهلها ببذاءة المريض ولم يتحمّل حياء نسائهن ألفاظه العارية فأخرجوه منها غير مأسوفٍ عليه ، وكان من نصيب قريتنا السعيدة ! اسمه عمّ سيّد لا أحد يعلم متى جاء ولا من أين جاء ، إنه فقط عمّ سيّد ولا شيء آخر ولا شيء معه !!بمرور الوقت قلت مساحة البذاءة على رقعة يومه الطويل العريض ، وهدأت تهديدات ذراعيه ، ومع هذا الهدوء أصبح اسمه – عمّ الشيخ سيّد – كرم أهل الريف ونخوة أولاد البلد مع حنان النساء الفطرى ، كلها عوامل شكلت مظلة تأمين لقوت الضيف ومزاجه فهو أيضاً يدخن بشراهة 0بدأت بعض الحكايات تتناثر حول عمّ سيّد شأن كل غريب ، قال البعض إنّ الشجرة التى يرتكز عليها كوخه السعيد قد نمَتْ وترعرعتْ بعد أن كانت على وشك الجفاف ، بل زادت خضرتها عن بقية بنات الجيل وأخرجت لهن لسانها قائلة ( · كِدْنا العوازل )
،وامرأة فى طريق العودة من طابور الخبز الشهير تلقى بضع أرغفة فى فضاء الكوخ على سبيل الصدقة ، ثم تقسم أن عدد ما اشترته لم ينقص رغيفاً واحداً ، وتتعالى صيحات التسبيح وكلمات الله أكبر تملأ الحوارى والأزقة السابحة فى بحر الجهل الأبدىّ ، بعض العائدين من سهرات الكِيف ، ورضاعة سجائر البانجو على أنغام ( الستّ لمّا ) أقسموا أنهم سمعوا أصوات تسبيح ملائكية تخرج محمولة على أجنحة بيضاء إلى خارج الكوخ المقدّس ، وبدلاً من الدخول إلى بيت الله فى انتظار الفجر الصادق ، ذهبوا للنوم حتى إذا استيقظوا مع عصر اليوم التالى خرجوا إلى الشارع يروون ما حدث عند الشجرة ، لقد فاقت شجرة الشيخ سيّد ، شجرة الرضوان شهرة وقداسة ، روايات من هنا وهناك تخبر أنّ البعوض والذباب لايجرؤ غلى التحليق فى سماء الكوخ الحرام ، ومن جازفت منهن بالطيران فيه سقطت سقطة لاتنهض بعدها أبداً ، ثم كانت الفاجعة التى أذهلت من كان لهم بقية من عقل ، عاد طبيب القرية الذى هبط أرضها هو الآخر ذات ليلة عاد من رحلة الحجّ ليخبر أنه رأى عمّ سيّد يطوف ويسعى ويستلم الحجر فى بلد الله الحرام ، وتعالت الصيحات بينما قال البعض( قلوب العاشقين لها عيون ترىما لا يُرى للناظرين وأجنحة تطير بغير ريشٍ إلى ملكوت رب العالمين ) وتعالت الدعوات تطلب المدد من أولياء الله الصالحين بينما ألبعض يقسم أنّ الشيخ لم يبرح موقعه ولم يغادر رباطه تحت الشجرة ويصر على القسم فى محاولة لإثبات شىء ما ، أعود من عملى ذات ظهيرة ، تسير اثنتان من النساء أمامى تحاول إحداهن إثبات خبر ما وتنفيه الأخرى ولا تقتنع إلاّ بعد أن أقسمت لها محدّثتها بالغالى ( آه وحياة عمّ الشيخ سيّد ) ويعود الهدوء إلى الشارع 0مرّ عامان وخيوط الكذبة تكتمل فى مشهد يزرع فى القلب حسرة ويلقى فى الحلق غصّة ، ثم استيقظت ذات صُبْح فلم أجد الكوخ ولا الشيخ ، سألت وعلمت أن بعض الشباب غار
· على دينه من أن تهدمه الأسطورة فحمل السيّد إلى قريته التى أخرجته ، ثم نظفوا المكان ورشوه بالماء وتبرعت فاعلة خير ببناء سبيل ( كولدير للماء البارد يشرب منه المارّة فى قيظ الصيف ) ونامت الفتنة ، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ، أتراها تستيقظ ؟· تمرّ إحداهنّ على المسجد تطيل النظر إلى ما كان يوما ً كوخاً ، وترسل نظرة ساهمةً فى الفضاء الفسيح ، ثم تتبعها تنهيدة حرّى من قلبٍ كسير ، وأسف على القرية التى فرطت فى بركة ساقها الله إليها من غير سعى منها ، بينما بقيت الشجرة علامة فاقت كلَّ المعالم 00 الشىء الفلانى عند الشجرة ، وبيت فلان قبل الشجرة بكذا وكذا متراً ، وأنا فى انتظارك عند الشجرة !! · هل تستيقظ الفتنة من جديد ؟ رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب لقد قطع شجرة تعلقت بها قلوب الصحابة احتراماً لذكرى لها مع سيد الخلق ، فهل من عمر يقطع تلك الشجرة ؟!