تحتفل مصر اليوم، ٢٥ أبريل، بالذكرى الثامنة والعشرين لتحرير سيناء فى وقت تختلط فيه مشاعر الفرحة والفخار بمشاعر الحزن والانكسار، ويمتزج فيه أمل السلام المفقود بإحساس عام بالضياع والقلق والخوف من المجهول.
نعم.. يحق لمصر أن تحتفل بتحرير هذا الجزء الغالى والعزيز من ترابها الوطنى، وأن تفخر برجال عظام ضحوا بدمائهم رخيصةً من أجل أن يتحقق هذا الهدف الغالى والنبيل، وبالتالى أن تفرح. ومع ذلك يصعب عليها فى الوقت نفسه أن تخفى مشاعر حزن وانكسار تجتاحها هذه الأيام بسبب ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، والتى باتت مدعاة لشماتة الأعداء وشفقة الأصدقاء.
كل ذلك كان يمكن أن يهون لو كان قد بقى لمصر بصيص من أمل يُشعرها بأن الغمة مؤقتة وفى طريقها للانقشاع.. لكن كيف لمصر أن تأمل فى غد أفضل وجارتها التى أبرمت معها معاهدة سلام مستمرة فى عربدتها، بطول المنطقة وعرضها، ولم تتخل قيد أنملة عن أى من أهدافها التوسعية التى لن تكتمل إلا بقيام دولتها الكبرى والمهيمنة.
وكيف لمصر أن تطمئن وسيناء نفسها لاتزال رغم معاهدة السلام، فى مرمى أطماع إسرائيل الاستراتيجية، بل تدل تصرفاتها وكأنها لا تعترف بسيناء أرضا مصرية، وإنما غنيمة حرب أعادتها إليها كوديعة مؤقتة، إلى أن تفرغ من مهمتها فى تركيع الشعب الفلسطينى ثم تعود لتستدير إليها وتطالب بردها أو اقتسامها لتقيم على ما تستطيع أن تحصل عليه منها مشروعاتها الرامية لاستيعاب اللاجئين وتصفية القضية الفلسطينية؟!
لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون مبارك، وليس عبدالناصر أو السادات، هو الرجل الذى رفع علم مصر فوق سيناء المحررة، على الرغم من أن أيا منهما كان الأولى بأن يحظى بهذا الشرف الرفيع. فالرئيس عبدالناصر أضاع سيناء بسوء إدارته لأزمة ٦٧، لكنه هو نفسه الذى صمم على تحريرها بقوة السلاح، ورفض أن يقايضها بتنازلات سياسية تصادر على إرادة مصر وتشل حركتها داخليا وخارجيا، وأعاد بناء الجيش الذى خاض به حرب الاستنزاف، ووضعت فى عهده خطط العبور، ولم يمهله القدر لنرى كيف سيدير الصراع بعد الحرب لو أتيح له خوضها.
والرئيس السادات اتخذ قرار الحرب وخاضها فى أكتوبر ١٩٧٣، لكنه هو نفسه الذى ذهب إلى الكنيست وأبرم المعاهدة التى انسحبت إسرائيل بموجبها من سيناء، ولم يمهله القدر أيضا لنرى كيف كان سيدير الصراع بعد استردادها. فعلى الصعيد السياسى لم يحصل مبارك على موقعه بحكم دور لعبه فى نجاح ثورة يوليو، لأنه لم يكن عضوا فى مجموعة الضباط التى صنعتها، أو بحكم دورٍ سياسى قام به لدعم فريق فى مواجهة فريق آخر.
لا أود أن أتوقف هنا عند الأسباب التى أدت إلى تمكين إسرائيل من احتلال سيناء عام ١٩٦٧ أو الخوض فى الظروف والملابسات التى صاحبت استعادة مصر لها عام ١٩٨٢، لكنى أود أن أتساءل: هل حصل رجال القوات المسلحة، والذين قدموا أرواحهم فداء للوطن فى حرب استنزاف دامت سنوات ثم فى أكتوبر نفسها، وهل حصل الشعب، الذى دفع تكاليف الصمود والحروب من موارده المحدودة وشد الأحزمة على البطون، من «ثمار السلام»، على ما يوازى كل هذه التضحيات؟
والجواب: بالقطع لا.. فملايين المواطنين الذين دفعوا تكاليفها من عرقهم مازالوا يسكنون القبور أو العشوائيات وربما يكون من بينهم من يعتصمون الآن أو يتظاهرون أمام مجلس يطالب بعض أعضائه بإطلاق النار عليهم. ولا أود أن أتوقف عند الأسباب التى أدت إلى عرقلة مشاريع التعمير فى سيناء، أو إلى إهمال سكانها من البدو وإساءة معاملتهم، رغم أن هناك الكثير مما يمكن أن يقال فى هذا الصدد، لكنى أود أن أتوقف هنا عند بعد واحد من تلك التى تثيرها ذكرى سيناء، وهو البعد الأمنى، لإعادة التذكير بالأطماع الإسرائيلية رغم معاهدة السلام المبرمة معها.
والدلائل على تلك الأطماع كثيرة، ربما كان آخرها تقرير حديث أعده «جيورا أيلاند»، مستشار الأمن القومى السابق فى إسرائيل، حمل عنوان «البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين»، وكان موضوعا للنقاش فى حلقة شاركت فيها يوم الجمعة الماضى من برنامج «آخر كلام» الذى يديره الإعلامى المتميز يسرى فودة.
فمن بين البدائل التى تفكر فيها إسرائيل مشروع يقضى بتنازل مصر عن مساحة مقدارها ٧٢٠ كيلومترا مربعا من أراضى سيناء تأخذ شكل مستطيل، يمتد ضلعه الأول على مساحة ٢٤ كيلو مترا مربعا على ساحل البحر المتوسط من مدينة رفح غربا حتى حدود مدينة العريش، ويمتد ضلعه الثانى جنوبا بموازاة الحدود المصرية - الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة بطول ٣٠ كيلو مترا مربعا غرب كرم أبوسالم. ويشير التقرير إلى أن هذه المساحة ستضاعف من مساحة غزة ثلاث مرات، وتعادل المساحة نفسها التى تتركز فيها المستوطنات الإسرائيلية والتى تبلغ ١٢% من مساحة الضفة الغربية وتسعى إسرائيل لضمها. فى المقابل تحصل مصر من إسرائيل على مساحة مماثلة فى صحراء النقب وبالتحديد فى منطقة وادى الفيران.
ويدعى التقرير الإسرائيلى أن إعادة تعديل الحدود على هذا النحو يسمح لجميع الأطراف المعنية بتحقيق مزايا كبيرة. فبالنسبة للدولة الفلسطينية سيتحقق لها اقتصاد مستقر وتنمية مستدامة، حيث ستحصل على ٢٤ كيلو مترا مربعا على شاطئ البحر المتوسط، ومياه إقليمية تصل إلى ٩ أميال داخل البحر بما فيها من حقول الغاز وميناء دولى كبير ومطار دولى على بعد ٢٥ كيلومترا من الحدود مع إسرائيل، إلى جانب إقامة مدينة فلسطينية جديدة على أرض سيناء تستوعب مليون شخص يمثلون الزيادة المحتملة لسكان قطاع غزة فى السنوات القليلة المقبلة.. أما مصر فسوف تحصل على أرض فى صحراء النقب مقابل تنازلها عن هذا الجزء من سيناء، وسوف تسمح لها إسرائيل بإقامة نفق بطول عشرة كيلومترات يعبر أراضيها ويصلها بالأردن، مما يفتح الطريق أمام تواصل مصر والأردن والعراق والسعودية ودول الخليج بريا.
وفى حال الموافقة، يقول التقرير: سيقوم الغرب بمساعدة مصر على إقامة محطات نووية للكهرباء وتحلية مياه البحر والتكنولوجيا المتقدمة بما يعوضها عن نقص المياه المحتمل فى نهر النيل فى السنوات المقبلة.. غير أن الجزرة الأكبر التى تقدمها إسرائيل فى هذا السياق تتلخص فى استعدادها لإجراء تعديلات على حجم القوات المصرية فى سيناء بما يمكنها من فرض سيطرتها الكاملة عليها وبهذا - يقول التقرير - ينتهى الصراع العربى - الإسرائيلى تماما!
أما الأردن، فيرى التقرير أنها ستكون الرابح الأكبر من المشروع، لأنه سيتيح إقامة شبكة من الأنفاق والسكك الحديدية والمواصلات بين ميناء غزة والأردن، مما يفتح آفاقا هائلة لامتصاص البطالة ووضع نهاية للحساسيات بين سكان الأردن الأردنيين والفلسطينيين حول ما يسمى «الوطن البديل»، وبذلك ينتهى الحديث عن هذا الجانب الذى يهدد استقرار الدولة الهاشمية. أما إسرائيل فيكفيها أن تحصل من الضفة الغربية على الأراضى المقامة عليها «الأماكن المقدسة للشعب اليهودى ومستوطنات يقيم فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين».
فهل قرأت السلطات المصرية هذه التقارير.. وهل تأخذها على محمل الجد.. وهل بناء الجدار العازل على حدود مصر مع قطاع غزة سيحول دون تنفيذ هذه المخططات.. وهل سياسة الحصار المفروضة على قطاع غزة وبيع الغاز والنفط لإسرائيل بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية سيكفينا شر دولة لاتزال تصر على محاصرة مصر والضغط عليها من كل اتجاه بما فى ذلك دول حوض النيل؟!.. متى نفيق؟!