نحو الخشوع 3
استقبال القبلة
واستقبل القبلة بوجهك واستقبل الله بقلبك واصرف نفسك عن كل شيء سوى الله والوجه يتبع القلب ويأتمر بأمره وقم مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيّده وارفع يديك للتكبير عاليا إلى حذو منكبيك بل إلى شحمة أذنيك على هيئة المستسلم وكما ألقيت بظاهر كفيك واستدبرت الدنيا فألقها من قلبك هذه الساعة واستقبل بباطن يدك الكعبة وبقلبك رب الكعبة وكن ناكس الرأس خاشع البصر وإياك أن تلتفت بعينك فإن الله ينصب وجهه الكريم لوحه عبده في الصلاة ما لم يلتفت ولا يزال مقبلا عليك فإذا التفت بقلبك أو بصرك أعرض الله عنك وإنما هي سرقة الشيطان من إيمانك وأنت لا تشعر .. فاحذر .. وغمّض عيني قلبك عن الالتفات لغير الله وكما قال الحسن " كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أقرب "
أيها الساهون في صلاتكم .. أيها التائهون عن أجمل لحظات قلوبكم .. وأشهى وجبات أرواحكم . ياغارقون في سُكر الشهوة والغفلة أنصحكم " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " البقرة 222
أخي .. أزل حجاب الشهوات والوساوس والدنيا وأقبل على الخالق جل وعلا يُقبل عليك
التكبير
ثم كبّر الله لتملأ قلبك من التعظيم والإجلال ليترجم لسانك ولا تكبّر بيدك دون قلبك وأول آفة يخلّصك منها التكبير هي آفة الكذب فبالتكبير الصادق تعلن أن الله أكبر في قلبك من كل شيء فاحذر وأنت تكبّر أن يكون شيء في قلبك أكبر من الله فتُكتب من الكذّابين لأن هواك أكبر
والآفة الثانية التي يطهّرك منها التكبير هي التكبُّر المنافي للعبودية فلست خيرا من غيرك .. والكبر هو أكبر مانع من الإنتفاع بآيات الله التي ستقرؤها في صلاتك كما قال الله تعالى " سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق " الأعراف 146
لذا تناول هذه الجرعة الشافية في الصلاة مرات ومرات لتتذكر المعنى وتخرج من صلاتك متواضعا
لأول مرة : يخرج التكبير من قلبي حقا وأستشعر معناه وأنطق به بقوة متخذا منه صرخة تحذير وجرس تنبيه ينتشلني من الغفلة والنسيان والسهو
عبودية الاستفتاح
واقرأ دعاء الاستفتاح قائلا " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " تثني بذلك على الملك الذي وقفت بين يديه وألق ِبهذه التحية والثناء تعظيما ومقدمة بين يدي سؤال حاجتك مما يستجلب إقبال الله عليك ورضاه عنك
أو ادخل من باب المذنبين المرتدين ثواب الاعتراف عساه يرحمك بقولك " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب , اللهم نقّني من الخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس , اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبَرَد " صحيح
نعم .. إنه مدخل هام وعهد جديد في تاريخ توبتك يتعدّى اللسان ويصل الجوارح لتُقدّم بصلاتك البرهان على جديّتك في التوبة .. يتنظّف قلبك ليستقبل آي الذكر وأذكار الصلاة فلا يُجدي مع الثوب الوَسِخ البخور فاغسله قبل أن يُعطّر
واعلم أن ذلك من تجديد التوبة خمس مرات في اليوم ولا مكان أنسب من المحراب ولا مقام أرجى من الصلاة لتتوب ويعفو الله عنك
أو امزج بين الدعائين في دعاء جامع " وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين , إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين , اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت , أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت , لبّيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت , أستغفرك وأتوب إليك " صحيح
الاستعاذة
فإذا شرعت في القراءة فقدّم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فالصلاة معركة الشيطان ولا مقام أعظم ولا أغيظ ولا أشد على الشيطان من هذا المقام وهو حريص على هزيمتك في أشرف مقاماتك وأنفعها في دنياك وآخرتك فهو يشحذ قواه ليصرفك عن الصلاة بالكلّية فلا تصلي أو يسرق منك قلبك ليشغلك عن العبودية وأنت بين يدي ربك
فالاستعاذة رحمة من الله بك وحرصا عليك وحبا لك لأنه لا طاقة لك بعدوك
ولذا كان مما قال شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم يوما " إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ويكفيكه "
تفاعلية القراءة
ثم ابدأ في القراءة واستشعر أنك في مقام مخاطبة ومناجاة الربِّ جل وعلا فاحذر مقته وسخطه بأن تناجيه وقلبك معرض أو مشغول عنه فلا تلتفت بعد أن قرّبك ملك الملوك إليه وأقامك بين يديه
واستشعر جلال الفاتحة وأنها أعظم سور القرآن فالله يجيبك بنفسه بعد كل آية لذا قف عند رأس كل آية وقفة يسيرة واسمع بأذني قلبك جواب ربِّك لتسمعه – كما ورد في الحديث – يقول " حمدني عبدي " إذا قلت " الحمد لله رب العالمين "
لكن ما هو الحمد ؟ وما الفارق بينه وبين الشكر ؟
الحمد أعمّ من الشكر فكلاهما ثناء على الله والحمد يشمل الشكر على النِّعم ويحمل معنى الثناء الحسن على الله بما هو أهله لصفاته الجميلة وأسمائه الحُسنى الجليلة والحمد لله تملأ الميزان ومن كمال الحمد أن تعلم أن حمدك لله نعمة منه عليك يستحق عليها الحمد ولو استنفذت أنفاسك كلها في حمد نعمة واحدة من نِعم الله كان عليك من الحمد أضعاف ذلك لكن في مقابل تكرار حمدك يأتي تكرار ثوابك ومضاعفة أجرك
وأصدِق حمدك في حياتك كلها على ما تحب وما تكره حتى وإن غابت عنك حكمة ذلك وسلِّط الحمد على سائر جوارحك فلكل جارحة حمد وحمد اللسان أسهل الحمد
وما بين مستقلّ ومستكثر يقع العباد على قدر معرفتهم بالله وكلما زادت معرفتك بالله زاد حمدك إذ تنفتح أمام قلبك الحُجب فترى نِعم الله التى لا تُحصى
نِعم منسيّة
التوفيق لطاعته .. واعتبر بقول رجل مُبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان يقول " الحمد لله على نعمته " فقال له وهب بن مُنبِّه أي شيء بقى عليك من النعمة تحمد الله عليها فقال له ارم ِببصرك على أهل المدينة فانظر إلى كثرة أهلها أو أحمد الله أنه ليس فيها أحد يذكره غيري !!
صحبة الصالحين .. واعتبر بقول الربيع بن خثيم لما قال له أبو وائل جئنا لتذكر الله عز وجل ونذكره معك وتحمد الله ونحمده معك فرفع يديه قائلا الحمد لله .. لم تقولا جئناك تشرب فنشرب معك ولا جئناك تزني فنزني معك .. وغيرنا يفعله
الإفلات من الكفر .. واعتبر بقول أيوب الحمد لله الذي عافانا من الشرك ليس بيني وبينه إلا أبو تميمة – يعني أباه –
لطف الله وإحسانه .. اشتهى شبل المدري اللحم فأخذه ليحمله فاختلسته الحدأة فنوى الصوم ورجع للمسجد فأقبلت الحدأة ونازعتها حدأة أخرى لتأخذ اللحم منها وذلك بجوار منزله فسقط اللحم في حجر امرأته فقامت وطبخته ولما قدّمته له في إفطاره قال من أين هذا اللحم ؟! فأخبرته .. فبكى وقال الحمد لله الذي لم ينس شبلا وإن كان شبل ينساه !!
ثم قُل " رب العالمين " والمقصود بالعالمين : عالم الإنس والجن والحيوان والنبات والطير وكل عالم نعرفه وكل عالم لم نكتشفه بعد فهو وحده المتفرِّد بالربوبية لكل العالمين فهو رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومدبّر أمرهم وموجدهم ومغنيهم
فإذا قُلت " الرحمن الرحيم " فقف .. كما وقف نبيك – صلى الله عليه وسلم - تنتظر سماع قوله تعالى أثنى عليّ عبدي
وافهم أن قولك " الرحمن الرحيم " إعادة وتكرار لأوصاف كماله ف " الحمد لله رب العالمين " آية الحمد , و " الرحمن الرحيم " آية الثناء ولكل آية عبودية واجبة فاستشعر أن كل نعمة أنعم بها عليك هي من الرحمن الرحيم فرحمته وسعت كل شيء فخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته وأرسل رسله برحمته وخلق الجنة برحمته وخلق النار أيضا برحمته فهي سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين لجنّته ويطهّر بها أدران الموحدين
وإن كنت جاحدا للنِعم تنساها دائما فلا تنسى آخر نعمة أنعم بها عليك .. وهي مقامك بين يديه تصلي وتسترحمه وتدعوه وتستعطفه وتسأله فغيرك من المطرودين كثير والمحرومون أكثر فكم جهل حلاوة الصلاة كثير فما أقبلوا وكم حاول المواظبة عليها كثير فما أفلحوا .. وهؤلاء جميعا فاتتهم الرحمة وأدركتك أنت
فإذا قُلت " مالك يوم الدين " فانتظر ردّ الله عليك مجّدني عبدي والمالك هو الذي لا يحتاج لشيء ويحتاج إليه كل شيء وتبيّن الآية أن قضية الهداية قضية وقت فكل الخلق سيهتدون ولكن منهم من يهتدي في الوقت المناسب ومنهم من يهتدي في الوقت الضائع فالكل سيُقِر يوم القيامة بأن الملك لله الواحد القهار بينما يرى كثير في الدنيا أنهم مُلاّك للنعم فلا يشكروها بل يكفرون بها ونسوا أن المُلك معار لهم وأنهم مُستخلفون بل ومُمتحنون فيه وربط الله المُلك بيوم الدين فلا منازع له سبحانه حينها أما اليوم فكم من منازع ومُدّع للقدرة والجبروت
وسُمّي يوم القيامة بيوم الدين لأن الكل سيُدين لله بأعماله ويحاسبه الله سبحانه عليها وذلك من موجبات حمده كما قال تعالى " وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين "
وتأمّل حالك يوم القيامة يوم تكون أفزع ما تكون وأعطش ما تكون وأعرى ما تكون وتتمنى الانصراف ولو إلى النار تأمل ذلك وأنت تقرأ هذه الآية واذكر كبرياء الله سبحانه وتعالى وعظمته وعدله ووحدانيته وصِدق رُسله فصفات العدل والاحسان والجلال والعظمة كلها لله
فيا لذة ذكر الله لك ثلاث مرات بـ حمدني عبدي وأثنى عليّ عبدي ومجّدني عبدي
ولو لم تخرج من صلاتك سوى بذكر الله لك بجلاله وعظمته فكفاك غنيمة لو كان قلبك حيا
وإذا وصلت " إياك نعبد وإياك نستعين " فقد وصلت إلى الآية المحورية والوقفة المفصلية في السورة وهي الآية التي تقسم الفاتحة ما بين الثناء قبلها والدعاء بعدها وهي أول آية تطلب منك واجبا عمليا في القرآن وتتطلب مراجعة نفسك ومحاسبتها وعندها انتظر قول الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فلا يعلم صدقك في قولك من كذبك إلا الله ولا يطّلع على ما يحويه قلبك وأنت تقرأها إلا الله فكم من قاريء لقوله " إياك نعبد " وهو عابد لغيره من المال والشهوة والجاه والسلطان يبيع دينه من أجلهم ! وكم من قاريء لقوله " وإياك نستعين " وهو بستعين بغير الله ويتذلل إليه !
فتوحيد الألوهية في " إياك نعبد " وتوحيد الربوبية في " وإياك نستعين " وتجد الإخلاص في " إياك نعبد " وهو يتضمن العمل الخالص لله والعلم الخالص لله فلا رياء ولا سمعة ترجوها بعملك ولا بعلمك والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل والخضوع
واقصد بقولك " وإياك نستعين " تجديد العجز والاحتياج والتبرؤ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته فأنت بالاستعانة تجمع بين الثقة بالله والاعتماد عليه فقد تثق بانسان ولا تعتمد عليه لعدم حاجتك إليه وقد تعتمد على إنسان مع عدم ثقتك فيه لعدم وجود من يقوم مقامه ... فلا تستعن بغير الله فيكلك إليه